القوة الأقوى

القوة الأقوى
فَرْقٌ بين مَن يطيعك حباً ومَن يطيعك خوفاً، وشتان بين قوة صلبة وقوة ناعمة.. تلكم الدول العظمى في العصر الحديث قوتها وهيبتها بالسلاح وبالقوة النووية وحاملات الطائرات والغواصات وغيرها من قوة مادية مدمرة. تلك الدول استعمرت بقوتها الخشنة دولاً إسلامية وغير إسلامية، لكنها لم تكسب القلوب. وتلكم إيران منذ حَكَمها الصفويون والقوة الصلبة منهجهم؛ سفكوا دماء الشعوب التي حكموها، وحوَّلوهم بقوة السلاح للتشيُّع الصفوي المتدثر بغطاء حب آل البيت تمويهاً وخداعاً للبسطاء، وجاؤوا بطقوسهم المجوسية الوثنية من تعظيم وتقديس للقبور وبكاء للماضي، واخترعوا اللطم والتطبير، ورفعوا شعار المظلومية والثارات للحسين من أحياء لم يشهدوا مقتل الحسين رضي الله عنه! وفرَّقت إيران الشيعة أنفسهم حين جاءت بالتشيع الصفوي، بعد أن كان السنة والشيعة يتعايشون، ويتبايعون، ويتصاهرون، والفوارق بينهم يسيرة، ولكن الأيديولوجيا الإيرانية الخشنة فرَّقت المجتمعين، ورفعت راية الشتم والسب والتطاول على رموز الأمة الإسلامية (جرح اللسان أقسى وأمر من جرح السنان). وأوجدت إيران المليشيات المسلحة في لبنان والعراق، ثم اليمن، لفرض فكرها بالسلاح؛ فتعادت القلوب المجتمعة، وأصبحت متناحرة متعادية. تلكم هي القوة الخشنة. وجاء مع أولئك الأعداء الخوارج من المسلمين السُّنة الذين أعمت بصائرهم ذوو القوة الخشنة، ورفعوا شعار العنف والغلو والتكفير، وبغوا في أرض الله، واستخدموا القسوة لتنفيذ منهجهم الجاف. إن كل تلك القوى بينها روابط مشتركة: الكره للإسلام الحق. ولكن مصيرها الفشل والخراب؛ فدين الله باق {ويمكرون ويمكر الله. والله خير الماكرين}.
وتبقى القوة الناعمة التي تكسب القلوب، إنها القوة الأقوى، وهي الأمكن والأبقى، إنها القوة التي جمعت القلوب في المدينة المنورة {لو أنفقت ما في الأرض جميعاً ما ألَّفت بين قلوبهم ولكن الله ألَّف بينهم}.. إنها قوة الرفق واللين {ولو كنت فظًّا غليظ القلب لانفضوا من حولك}.. إنها قوة احترام الآخرين {لا إكراه في الدين}، وقوة السماحة والتيسير {لا تغلو في دينكم ولا تقولوا على الله إلا الحق}، وقوة السمو والمعاملة الحسنة {لا يسخر قوم من قوم عسى أن يكونوا خيراً منهم}.
إن اختيار الله لمكة والمدينة إنما هو لحكمة يعلمها، واختياره اللغة العربية لكتابه الكريم ليس مصادفة ولا عبثاً، ولكنه التكريم والسر العظيم، إنها قوة ناعمة، بدأت في بلاد الحرمين، صفاء معتقد ونقاء عبادة، وستظل بلاد الحرمين وخادم الحرمين القوة الأقوى والأبقى. إنها رسالة بدأت صغيرة في مكة والمدينة، ثم انتشرت في بقاع الأرض. إنها قوة تبني ولا تدمر، قوة تستجيب لها القلوب وتتفاعل معها النفوس.. انظروا في هذا الزمان لأئمة الحرمين حينما يحلُّون بأي أرض إسلامية، كيف تتدافع الجماهير للصلاة معهم. إن قوة الحرمين الناعمة تبعث الطمأنينة، وتتغلغل في الأفئدة.. إنها قوة إلهية جعلت بيت الله الطاهر مهوى الأفئدة {وإذ جعلنا البيت مثابة للناس وأمنا}. إن الصوت العذب الصادح في بيت الله عندما يتحرك في أرض الله، ويصدح في مساجد الله في بلاد المسلمين، تهتز له القلوب، وتتجاوب له الأفئدة.. تلك هي القوة الحقيقية. ولقد خص الله المدينة المنورة بالطمأنينة التي يشعر بها الزائر فور دخوله طيبة الطاهرة حيث يرقد هناك رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وصحابته الكرام. فمن المدينة انطلقت القوة الروحية الناعمة، وبقيت في النفوس تتزايد سنة بعد أخرى.
وقادم الأيام سيثبت انكسار المشروع الإيراني الصفوي؛ فالقوة الناعمة التي كرَّم الله بها بلادنا في مكة والمدينة باقية بقاء الدهر؛ ولهذا فرقٌ بين قوة إيرانية خشنة تهدم وقوة سعودية ناعمة تبني، بين راية ترفع حب الصحابة وآل البيت وراية ترفع شتم الماضي وتفريق الحاضر، بين قوة العضلات وقوة الأفكار.
إن قوة مكة والمدينة الناعمة تفوق كل قوة بشرية. لكن كيف نحن واستخدامنا لهذه القوة الناعمة؟ وكيف إعلامنا وإبراز هذه القوة الناعمة؟ هذا ما يحتاج لمقال قادم.  

أخبار قد تعجبك

No stories found.
صحيفة سبق الالكترونية
sabq.org