نطمع في تدخلك.. يا "ولي ولي العهد"

نطمع في تدخلك.. يا "ولي ولي العهد"
لا أعتقد أن أحداً لم يسمع أو يشاهد ما تتناقله وسائل الإعلام ووسائل التواصل الاجتماعي من أخبار عن فيروس كورونا، وعن المستشفيات ومراكز الطوارئ التي أُغلقت بسببه؛ ما ضاعف من معاناتنا بسبب أخبار الفتك اليومي بالأرواح على طرقنا الداخلية والسريعة، بسبب التفحيط والسرعة الزائدة، أو نوم السائقين، وعلى مرأى ومسمع من الإدارة العامة للمرور، التي أعلنت عجزها التام عن وضع حد أو حل لهذا الفتك، واكتفت بالوعظ والإرشاد في مجال القيادة الآمنة واحترام الطريق، وغير ذلك مما يدخل في دائرة رفع العتب وذر الرماد في العيون.
 
وبالعودة لموضوعنا الأساس، فعندما أقول إن مركز طوارئ في مستشفى قد أُغلق فليس معنى ذلك أن من يعمل فيه من الطواقم الطبية والفنية والإدارية قد مُنحوا إجازة إلى حين ميسرة، بل إن عدداً لا بأس به من المرضى من ذوي الحالات الحرجة قد حرموا من تلقي العلاج، وهناك عدد آخر مُنع من مراجعة القسم وهم في أمسّ الحاجة إليه؛ ما قد يتسبب في مضاعفة آلامهم وأمراضهم، ومن ثم معاناتهم، وقد ينتهي الأمر ببعضهم إلى الموت - لا قدر الله -.
 
والسبب هو نفسه القديم الجديد: ظهور وباء مرتبط بفيروس، يبدأ بالفتك بالحيوانات، وتدريجياً يبدأ بمهاجمة الناس؛ فتثور ثائرة المجتمع؛ وتبدأ الأصوات ترتفع؛ وينشط الإعلام؛ فمن هنا تقرير، ومن هناك مراسل على الهواء مباشرة من موقع الحدث، والكل مضطرب بسبب غياب المعلومة؛ فلا توجد تقارير إخبارية أو تصاريح من متحدث رسمي عن وزارة الزراعة أو وزارة الصحة؛ إذ إن الوباء يصيب الإنسان والحيوان معاً؛ وهو ما يفاقم من حجم المشكلة؛ فالإنسان يعتمد في غذائه على استهلاك اللحوم، فإذا كانت اللحوم مصابة أو مشتبهاً في إصابتها فمن الصعوبة بمكان أن نقنع الناس بمقاطعة أكل اللحوم؛ لأنه ليس كل حيوان مصاباً، في حين ترد الأخبار على مدار اليوم بموت عدد كذا، ونفوق عدد لا بأس به من الحيوانات، وبعد مضي الأسبوعين الأولين، تبدأ الجماهير بالسؤال عن الدواء، ولماذا لم يطور أو يجلب إن كان موجوداً من أي بقعة على وجه الأرض.
 
هذا ما يدور في المجالس والاستراحات بين الناس من أحاديث وتجاذب لأطراف بعض الأخبار من هنا وهناك.
 
والحقيقة أيها الكرام أكبر من ذلك بكثير، وهي تكمن في التساهل في أمر تربية الإبل والمواشي. فكلنا شاهد الأحواش العشوائية التي تصدمك وأنت تدخل أو تغادر معظم مدننا، وفي مقدمتها الرياض. وإذا ما تعمقت وتوقفت ودخلت لوجدت العجب العجاب؛ فقد جعلت العمالة الوافدة من هذه الأماكن مرتعاً لها، وفيه تمارس صنوف التعذيب والفتك بالحيوانات التي لا حول لها ولا قوة. فكم من أمصال تحقن بها هذه الحيوانات بدون تمييز، وكم من أطعمة فاسدة تقدَّم لها بدون شفقة ولا رحمة، وكم وكم.. وكم من حيوان مريض يخالط حيواناً آخر سليماً، وما ذلك إلا لغياب الرعاية الطبية اليومية، بل شرط توافرها يجب أن يكون إلزامياً لكل من شبك مساحة من الأرض وأصبح يمارس هواية تربية المواشي والإبل.. فلا بأس، ولكن بشروط، وإلا فغيرك أولى، وإن كنت أرى أن يحد من هذا الأمر، وتصبح تربية المواشي والإبل مقصورة على من لديه رخصة رسمية، ويوضع نظام ملزم وبشروط وضوابط صارمة للهواة؛ لأن كثرة المربين بدون ضوابط هي ما يتسبب في العشوائية التي قد تفضي إلى ما نحن نعايشه من استهتار وغياب لأبسط شروط النظافة والتعقيم. للأسف، الرقابة معدومة، والإشراف الطبي لم يصل معناه إلى الآن إلى بعض المسؤولين في الأمانات، فكيف بمن هم أعداء له من المربين والعمال؟ ولكم أن تتخيلوا أن بائعي الأغنام والإبل ينامون ملتحفين السماء ومتوسدين الأرض، وهذا رأي العين، ولمن أراد التأكد الذهاب لأي سوق بيع أغنام بعد الفجر مباشرة..
 
وما زلتُ أتذكر ذلك اليوم المؤلم في حياتي حين توجهت بعض صلاة الفجر إلى مسلخ النسيم بمدينة الرياض، ويتبعني صاحب سيارة تحمل (حاشي) (صغير الإبل) قد ابتعته منه، وبعد إتمام إجراءات دفع الرسوم في الشباك المخصص لذلك، وهو الجهة الوحيدة التي كانت تعمل في المسلخ بشكل جدي، توجهت لساحة الذبح، وبدأ العامل بمباشرة عملية الذبح، وأتمها بخير، وشرع يسلخ في الحاشي، وإذا بي أسمع صوت ماكينة يقترب شيئاً فشيئاً، وبعد اقتراب الصوت ظهر أن هناك عاملاً يحمل على كتفه أسطوانة، وبدأ برش دخان أبيض كثيف خارج المسلخ وعلى مقربة من ساحة الذبح، ومن شدة الرش وكثافة الدخان تشكل حاجز بيني وبين العامل، فلم أعد أتبينه، ونظرت خلفي فإذا بعامل السلخ منهمك في عمله، وبدأت أصيح على كل من في المسلخ لوقف هذه الجريمة، فقد يدخل الدخان إلى ساحة الذبح، ويصل إلى الحاشي، ومن ثم يتسمم اللحم، واستطعت بعد جهد جهيد أن أوقف عملية الرش، وغطينا الحاشي - والحمد لله - حتى هدأ الموقف، وبدأ عامل الرش يشرح لي أن هذا مبيد مفيد، ويقتل الجراثيم، وأن عملية الرش هذه تتم بشكل يومي في هذا الوقت، ولا أعلم حتى هذه اللحظة لماذا لا تتم أثناء فترة توقف العمل في المسلخ، ولا أعلم ما هي المادة المستخدمة، ولماذا يتم الرش بالتعفير في مسلخ؟ ولماذا لا توجد وسائل أخرى أكثر أماناً، مثل السوائل المعقمة؟ وكم من ذبيحة تعرضت لدخان هذا المبيد الحشري الفتاك، ووصلت لموائد البشر، وأُكلت، والله وحده يعلم ما أحدثته من أضرار وأمراض لا حصر لها. وللحقيقة، ما كان عليه المنظر داخل وخارج المسلخ يثير الرعب والاشمئزاز؛ فأبسط احتياطات النظافة معدومة، بل إن كل شيء يتم بشكل عشوائي واستهتار، فأين وصية الرسول - صلى الله عليه وسلم - بأن نخفي السكين عن عين الذبيحة، وعدم ذبح الحيوان أمام حيوان آخر؟ فكل هذا لا يؤخذ به، وتساق الحيوانات إلى الذبح وهي عطشى، وقد تكون جائعة، وتذبح أمام بعضها، بل إن الدم قد يتناثر في وجه الغنم المنتظرة بدون أي اكتراث، ناهيك عن عملية الذبح القسرية التي لا يطبق فيها تلاوة بسم الله، الله أكبر، والصبر على الذبيحة حتى ترتخي تماماً ومن ثم يشرع في عملية الذبح، فكل ذلك أصبح من الماضي على يد العمالة الوافدة التي تذبح كنوع من ممارسة العمل المهني، وكأن العامل إنما ينشر في قطعة خشب بدون روح! وكل هذا لا يستطيع شخص غير مؤهل معرفته وتفهمه؛ فلا بد - إذن - من إيجاد الحل، فأين يكمن الحل؟
 إن الحل - من وجهة نظري - طالما أن هناك كليات زراعة منتشرة في جامعاتنا، وتخرّج دفعات بتخصص إنتاج حيواني، وهناك جامعة الملك فيصل، ولديها تخصص طب بيطري، فلا ينقصنا التخصص، فلماذا نترك أنفسنا عرضة لعمالة وافدة، تتعلم في رؤوسنا الحلاقة؟ فالمسألة ليست إصلاح سيارة، أو سباكة.. هذه أرواح بشر، وها نحن نعاني الأمرين من أوبئة لم تعهدها الجزيرة على مر قرون طوال، حين كان الراعي العربي يعرف من أسرار المواشي والإبل وأمراضها وأعراضها ومعالجتها الشيء الكثير. وأجدها فرصة لأقترح على وزارة الخدمة المدنية أن تدرج مسمى وظيفة (راعي) ووظيفة (جزار)، ويصنف على أساسها راعي مواشي أو راعي إبل ضمن تصنيف وظائفها الخاصة بوزارة الزراعة تكريماً لهذه الوظيفة؛ إذ عمل بها الأنبياء - عليهم صلوات الله وسلامه – بحيث تتولى وزارة الزراعة توجيه هؤلاء الرعاة إلى الأماكن أو الهجر التي تحتاج إليهم، وتوجيه الجزارين إلى المسالخ المنتشرة في كل أسواق بيع المواشي والإبل في جميع أنحاء السعودية، وتتولى هي الإشراف على تدريبهم وإعدادهم الإعداد المناسب لأداء مثل هذه الوظيفة الكريمة، وتكفل لهم العيش الكريم، ويجب أن تكون برواتب مجزية، وبدلات محفزة، وبنظام يكفل للراعي والجزار أن يعيش حياة كريمة، ويعتز بما يمارسه من عمل كريم.
 
وعلى الطرف الآخر للقضية، تبرز مشكلة الأعلاف والحبوب التي تقدَّم للمواشي والإبل طعاماً، وهذه في الغالب لا تخضع لأية اختبارات أو مواصفات معينة؛ لتحد من تسرب أمور أخرى قد تكون مضرة، وقد تكون فتاكة وناقلة للأمراض، وخصوصاً الحبوب؛ فبعضها معالَج كيميائياً، وبعضها غير صالح، وبعضها مضر بالمواشي والإبل، وهذا ما أخبرنا به أهل الخبرة والعارفون بأسرار المواشي والإبل؛ إذ يظهر ما تأكله في اسوداد الأحشاء وظهور نقاط بيضاء على الكبد، وهي كفيلة بإتلاف الذبيحة بالكامل إذا كانت الكبد متكيسة بالكامل، وقد رأيتها بأم عيني في يوم ما.
 
وبعد هذا العرض للمشكلة، التي أرجو أن أكون قد تناولتها من جميع جوانبها، يبرز السؤال، وهو: ما الذي يجعلنا نقبل وضعاً مزرياً كهذا، وقد سخر الله سبحانه وتعالى لنا كل الإمكانات المادية والبشرية التي تمكننا من تجنب وضع مخيف كهذا، وبالتالي نتجنب الكثير من المشاكل والأوبئة التي تحل بنا، ولا نعرف لها سبباً، ولم تكن موجودة أو معروفة بين أوساط الباعة والمربين للماشية والإبل؟
 
إن الوقت قد حان لوضع حد لهذا الاستهتار الذي يجنبنا مشقة البحث عن الأسباب كباسط كفيه إلى الماء ليبلغ فاه وما هو ببالغه. فقد عشت في الغرب فترة لا بأس بها، ومررت بتجربة شراء خروف حي، ومن ثم ترتيب أمر ذبحه، وبعد السؤال أُخبرت بأن عليّ أن أتصل بصاحب مزرعة تربية مواشٍ، وتحديد موعد مسبق للذهاب للشراء، ومن ثم تحديد موعد آخر مع مسلخ وتقطيع في مكان آخر.. وبالتالي فالقضية ليست أمراً عابراً، لكنها أمر على غاية من الأهمية؛ لأن أمور التربية والمواشي في الغرب مرتبطة بالبيئة؛ وبالتالي فيها تعامل بكل حذر. وهذا هو السبب في عدم وجود أسواق مفتوحة لبيع المواشي والإبل؛ ما يجعل عملية السيطرة عليها صعبة، ويسهل انتشار الأوبئة.
 
وبالفعل، اتصلتُ، وحددت موعداً، وذهبت للمزرعة، وقابلت من يعمل فيها، واخترت الخروف، وقد نبهنا الرجل بأن علينا وضعه في سيارة مكشوفة كالونيت؛ لأن حمله في شنطة السيارة يعد مخالفة نظامية، ويعرض الحيوان للأذى. وبعد نقله في سيارة مكشوفة وصلنا لمكان الذبح، وإذا به مسلخ مجهز بالكامل، ونظيف لدرجة يصعب معها أن تقول إن هذا المكان لذبح الماشية. وبعد تسجيل بعض المعلومات بشكل سريع، ثم نقل الخروف إلى صالة داخلية، تمت عملية الذبح بعدما استأذنت القيام بها والتسمية على الذبيحة، وانتقلنا بعد ذلك للتقطيع، وأُخبرنا بأن علينا أن ننتظر نصف ساعة؛ لأن الذبيحة بحاجة إلى أن تعلق في فريزر تحت درجة حرارة لا تزيد عن 15 درجة مئوية؛ ما يجعل الذبيحة تشتد ويسهل تقطيعها. وفعلاً، انتظرنا الوقت المحدد، وبعدها انتقلنا لمكان أشبه بالمكتب، وفيه تتم عملية التقطيع والتغليف وكتابة اسم كل جزء من الذبيحة على بطاقة لاصقة، وتوضع على الغلاف؛ لتميز كل جزء من الذبيحة بوضوح تام.
 
وهكذا بدأنا عملية شراء الخروف، وانتهينا بذبحه وتقطيعه وتغليفه وتعريف كل جزء منه، بكل هدوء، في الوقت الذي أقوم فيه فزعاً من نومي في كل مرة أتذكر فيها المعاناة التي أمر بها ويمر بها الملايين من أبناء بلدي في كل عام عندما يحل علينا يوم النحر في عيد الأضحى المبارك، وكيف نعيش ذلك اليوم - وهو يوم عيد - في مشقة وعنت بسبب الذبح العشوائي وتغيير الأضاحي، والكثير من المشاكل التي نحن في غنى عنها لو أحسنَّا التدبير، وأخلصنا النية لإيجاد الحلول العملية لا الشكلية. استدعيت ذاكرتي؛ لأن ما قمت به يعتبر تجربة فريدة بالنسبة لي، وكم تمنيت أن يكون ما شاهدته واقعاً في بلدي، وهو ممكن، ولكن بحاجة إلى إرادة وعمل جاد، وتفانٍ، وقانون يجعل من تطبيق النظام أمراً إلزامياً، وليس اختيارياً.
 
وبناءً على ما تقدم، أناشد المسؤولين في وزارة الداخلية - وعلى رأسهم سمو ولي ولي العهد النائب الثاني لرئيس مجلس الوزراء وزير الداخلية - أن يأمر سموه بإصدار النظام الوطني للاتجار بالثروة الحيوانية، وما يتبع ذلك من تشريعات تنظِّم عملية تربية ورعي المواشي والإبل، والشروط المطلوب توافرها في أسواق البيع، والمواصفات الخاصة بالمسالخ، على أن يكون لوزارة الزراعة الدور الأساس في سن الأنظمة والقوانين، ومن ثم يأتي دور البلديات، بالتنسيق مع وزارة الصحة، ومتابعة الالتزام بها، وفرض عقوبات صارمة على من يخالف. والله من وراء القصد.

أخبار قد تعجبك

No stories found.
صحيفة سبق الالكترونية
sabq.org