بنيان قوم تهدما

بنيان قوم تهدما
قبل قرابة ألف وأربع مائة سنة مات قيس بن عاصم المنقري التميمي فتحركت لموته قلوب القبائل، وأجهشت لفراقه أطراف العرب وأوساطها وكتب عبدة بن الطبيب مرثيته التي اعتبرها الأدباء أروع مرثية في العربية، فقال فيه: 
عليك سلام الله قيس بن عاصم
ورحمته ما شاء أن يترحما
تحية من أوليته منك منة
إذا زار عن غبٍ بلادك سلما
فما كان قيس هلكه هلك واحد
ولكنه بنيان قوم تهدما
 
تذكرت هذه الحادثة في حادثة مشابهة، أما المكان ففي جامع الملك خالد بأم الحمام، وأما الزمان فصلاة العصر من يوم الثلاثاء السابع والعشرين من شهر الرحمات شهر رمضان عام ١٤٣٦ه، هناك رأيت الوجوه المختلفة التي لا تجمعها أسرة واحدة، والملابس التي لا تدل على بلد واحد.. هذا من أهالي نجد، وذلك قد أمال عقاله كما يفعل أهل الشمال، وثالث يلبس عقال أهل قطر، وهناك من يرتدي ثياب أهل الكويت.. هنا شباب وشيب، كبار وصغار اجتمعوا بشكل عجيب ونداء واحد ومحبة خاصة لوداع جثمان شاعر العرب وملك بيان الشعر النبطي المعاصر الشاعر الكبير عبدالله بن علي بن صقيه التميمي، رحمه الله.
 
تذكرت عندها تلك الأمثال التي تكررها العرب في جنائزها (من الناس من يأتي ليراه الأحياء، ومنهم من يأتي حباً في الأموات) وحقاً والله فالمشهد الماثل أمامي يصور هذا المثل.. فليس ثمة من يتوجه له العزاء.. الكل يعزي ويتلقى العزاء، فالفقيد رحمه الله لم يعقب ولداً وليس له إخوة، فكان المشهد أكثر مهابة، وأعظم تأثيراً، حيث تقاطرت رؤوس القبائل، وأهل الجاه، ليقفوا جميعاً في مشهد لا ينتظرون من ورائه أن يراهم مسؤول، أو أن يتفقدهم صاحب العزاء.. جاؤوا بلا مشالح ولا رسميات لأنه رحمه الله كان يمقتها فاحترموه حياً وميتاً.
 
كنت أرقب المشهد وأستمع للأحاديث الجانبية، كل واحد يعزي صاحبه ويذكر من شيم الراحل ومكارمه ما لاقاه وعرفه، عبدالله بن علي بن صقيه التميمي رأس من رؤوس القبائل ورجالات العرب، رجل محسوب على قبيلة كاملة، تفقده قبيلته وتحزن لموته أشاوس الرجال ويتأسى لفراقه جحاجح العرب في كل مكان.. فهو مالك زمام الأدب الشعبي، وصاحب العبارة البليغة في الشعر، حتى يظن السامع أن بقايا شعر الجاهلية في جزالة لفظه وقوة بيانه قد تقاطر إلى مسمعه فصبه في الشعر الشعبي المعاصر صباً.
 
كان رحمه الله محط أنظار الحضور في كل مجلس، فإذا حضر أنصت الأدباء واستمع الشعراء وأطرق النجباء فكأنما على رؤوسهم في حضرته الطير من جمال عباراته وتسلسل حديثه، ولذا نقل بعضهم كلمة للشيخ عبدالرحمن بن عبدالعزيز بن مقحم رحمه الله وهو البليغ الحافظ المتحدث، لما كان في مجلس حضره عبدالله بن صقيه رحمه الله وقال لماذا لا تتكلم يا ابن مقحم؟ فقال له: كيف أتحدث بحضرتك؟ أغنى الصباح عن المصباح!
 
وصدق رحمه الله، فقد أوتي بياناً وفصاحة، وجمالاً وعذوبة، وحسن منطق، وقوة حجة، لكنه لم يكن أبداً ليتعرض لأحد أو ينتقض من قوم.. بل كان يمدح غيره مع اعتزازه بقبيلته.
 
كان رحمه الله كثير التصدي لحاجات الناس، فلا يرد طالب شفاعة، ولا يأنف من سائل حاجة، بل كان ينتصر له بجاهه، ومن أعظم تلكم الأمور السعي في الإصلاح وفك الرقاب، فكم من قضية سعى فيها وفك فيها الرقاب وأصلح بين المتخاصمين، وأذكر أني قلت له في هذا الشأن إن أقواماً يسعون في فك الرقاب ويأخذون (نسبة) من المال فلم يصدق، بل قال: ما هم رجاجيل!! ولو علم رحمه الله أن بعضهم ممن ينتسب للدعوة وطلب العلم لكان الخطب أعظم!!
 
أما شعره فشأن آخر، عذوبته وجماله وقوته تغني عن الكتابة عنه، كان يفتتح كل قصائده بذكر الله وتعظيمه سبحانه، ويكفى أن يعلم القارئ الكريم أن واحدة من أعظم قصائده ألقاها أمام الملك فيصل رحمه الله في حفل الانتصار بمعركة الوديعة (وكأنه يتحدث عن حال الحرب مع الحوثيين اليوم) فقال فيها:
نهنيك يا ساس العروبة ومبناها
بغت تموت ورحمها الله واحياها
لك الحمد يا محيي العظام الرميمة
جعلت فيصل حاكم العدل يحماها
 
أما قصيدته الثانية الأشهر فهي التي طلبها منه الشيخ عبدالعزيز بن باز رحمه الله، وكانت درساً مدبجاً بالشيم والكرم والأخلاق الحميدة، وذكر فيها منهجه بعدم التزلف ولا التصنع ولا التكسب بشعره، ولما انتهى منها، قال ابن باز رحمه الله (جمعت قصيدتك بين التوحيد والفقه والبر ومكارم الأخلاق) وهذه بعض أبياتها:
يقوله اللي للإله موحدي 
عظيم ما غيره إله يعبد
لي حل بك كرب وضاق بك الفضا
ادعه إلى نامت عيون الحسدي
يغفر ذنوبك ويتحمل زلتك
ويجعلك دايم بالنعيم مخلدي
هو الذي يحيي العظام البالية
ويبري عليلٍ بالفراش مرقدي
سامع دبيب النمل في صم الصفا
وكاسر جموع المنحرق والملحدي
محيي الهشيم البال من وبل الحيا
وشافي مريض طول دهره مقعدي
أرجوه يهديني إلى سبل الهدى
وياقا لعثراتي عن العلم الردي
 
إلى أن يقول
يقوله اللي ما استذل ولا خنع
ولا قال لاحدٍ في حياته سيدي
ولا تخضع كود للفرد الصمد
اللي له المسلم يطيع ويسجدي
ترى غناة النفس هي كنز الفتى
أما حطام المال عجلٍ ينفدي
موتك جوعٍ بالمعزة والشرف
يغنيك عن نذل تمد له اليدي
 
كان رحمه الله محباً لأهله وقبيلته باذلاً لهم يجيب دعواتهم ويحضر مناسباتهم، بل ربما دعاه الواحد منهم على مناسبة عادية فيجيب دعوته عندما كان في نشاطه وقوته.
 
مات رحمه الله وهو يحمل تاريخا حافلا، وحبا لوطنه، وصدقا مع الناس، لم يكن متلونا ولا متقلبا بل كان واضح الرؤية سديد الرأي بعيدا عن النفاق والاسترزاق بالشعر أو التقرب من أهل المال لمالهم.
 
ولذا فلا غرو أن يكون يوم وداعه يوما خاصا تتجمع فيه رؤوس العرب من كل حدب وصوب ودون أن يقصد شخص للعزاء، بل كل أحد يعزي من قابله ورآه، وكأنهم يرددون قول امرئ القيس:
فلو أنها نفس تموت سوية
ولكنها نفس تساقط أنفسا
 
وحقاً إنها نفس تساقط أنفساً، فما إن مات حتى بادر الشعراء برثائه في ساعات قليلة وكأنهم يرثون أنفساً تساقطت وجموعاً ماتت، ورزايا وقعت في فقد شهم يموت لموته بشر كثير.
 
اللهم ارحم عبدك الضعيف عبدالله بن صقيه وارفع درجته وعافه واعف عنه وتجاوز عنا وعنه، فقد كان بخلقك رحيما وأنت أرحم منه، ولهم كريما وأنت أكرم منه، وبحاجاتهم قائماً وأنت صاحب الفضل وقضاء الحاجات وأولى بالتجاوز منه يا رب العالمين.
 
والحمد لله على قضائه وقدره وعزائي لكل محب من أبناء قبيلتي وللوطن كله في الفقيد الغالي.

أخبار قد تعجبك

No stories found.
صحيفة سبق الالكترونية
sabq.org