ادهن السير يسير

ادهن السير يسير

في العام 1411 الهجري، وعندما كنت في رحلة بالباص لإحدى الدول العربية المجاورة مع أحد الأصدقاء، طلب منا منسق الرحلة أن نضع في داخل جوازاتنا مبالغ مالية؛ ليتم استكمال إجراءات السفر. وعند سؤاله عن هذه المبالغ، وماذا تمثل؟! رد علينا بأنها تسلَّم لموظف الجوازات؛ ليقوم بإنجاز المطلوب منه بشكل أسرع، ويسهل مهمة عبورنا! وبالرغم من عدم تقبُّلنا للفكرة إلا أننا دفعنا على مضض بعد أن أقنعنا بأن هذا الإجراء روتيني، وجميع من يعبرون هذا المنفذ ليس لهم خيار سوى الدفع أو سيقومون "بمرمطتك"، وتعطيلك، وتفتيش سيارتك، وجعلك تنتظر حتى يتم الاستعلام عنك في النظام، ولو تجرأت وحاولت تصعيد الموضوع للمسؤول الأعلى فستندم أشد الندم، ويكون المبلغ الذي ستدفعه للخروج من هذه الورطة أكبر؛ لأن المسؤول أكبر؛ وإكراميته أكبر..!!

هذا الإجراء الفاضح وبشكل علني في منفذ دولي كان محل تعجب شديد جدًّا من ناحيتي، وخصوصًا أن من يقوم بذلك هم رجال الأمن الذين يُفترض بهم أن يكونون الأكثر نزاهة في كل دول العالم. هذا التعجب لم يبدده سوى رد صديقي بعبارة "ادهن السير يسير". وكانت هذه المرة الأولى التي أسمع فيها هذه العبارة. واسترسل صديقي ليوضح أنها تسمى عندهم "إكرامية"، وهي شيء مألوف ومسلَّم به. فبادرته بسؤال: وهل جميع المصالح الحكومية لديهم، بما فيها القضاء، يتعاملون بذلك؟! فكان الرد مفاجأة بالنسبة لي بأن الجميع يتعاملون بذلك دون استثناء..!! يا لله، أين يذهب هؤلاء من لعنة الله؟ وهل يتوقعون أن تغيير الاسم سيُخرجهم من دائرة الطرد من رحمة الله..؟! لا أكتم سرًّا أنني عندما عدت إلى بلدي (المملكة العربية السعودية) بعد تلك الرحلة سجدتُ شكرًا لله على النِّعَم التي ننعم بها، والتي لا عد لها ولا حصر..

ربما لو تكررت هذه الرحلة في وقتنا الحاضر لن أكون متعجبًا لمثل هذه الأمور؛ لأننا وإن حاولنا دس رؤوسنا في التراب قد ابتُلينا بما كنا نعيب به الآخرين، وأصبح شعار "ادهن السير يسير" من الشعارات الدارجة، التي تنتهجها بعض الإدارات الحكومية لإنجاز معاملات المواطنين عن طريق بعض الموظفين ضعفاء الأنفس، الذين أسميهم "خفافيش الظلام".. والمواطنون الذين يشاركون في ذلك على نوعين:

ــ مواطنون مغلوبون على أمرهم، يطالبون بحقوقهم الخاصة التي كفلها لهم الشرع والنظام، وليس في مطالباتهم إضرار بأحد، ولكن تسلَّط عليهم مسؤول ظالم؛ فلم يجدوا حلاً إلا أن يدفعوا مستندين إلى بعض الفتاوى من بعض علماء الدين، التي أجازت لهم ذلك.

ــ مواطنون يطالبون بما ليس لهم، سواء بالتعدي على حقوق الآخرين، أو حتى بدون الإضرار بأحد، فيتوجهون لهؤلاء الخفافيش، فـ"يدهنون السير"؛ ويحصلون من خلالهم على ما لا يستحقون!!

تعددت أنواع "دهن السير"؛ فكل مسؤول ومدى سعة ذمته، وكل خدمة ولها ثمنها.. فمن "ربعية عسل"، إلى هاتف نقال، إلى توفير مواد بناء لعمارة المسؤول، إلى سيارة فارهة أو قطعة أرض.. وهناك نوع جديد من "دهن السير"، تطور مع تطور الحال؛ إذ يكون المسؤول شريكًا في المشروع "ففتي.. ففتي"!

وكذلك تعددت الطرق في عملية "دهن السير"؛ فالمسؤول لا يظهر نهائيًّا في الواجهة، ولديه أذرع، هم من يقومون بالمهمة.. إما عن طريق موظف مستخدم في المصلحة، أو عن طريق حساب بنكي لشخص آخر، أو تسلَّم مباشرة في استراحة المسؤول بعيدًا عن الأنظار. ومن المؤكد أن هناك طرقًا أخرى، وبمعاونة شياطين الإنس والجن يبتكرون أساليب وطرقًا جديدة، لم ولن تخطر على البال!

ومن الحلول التي ستقضي على هذه الجريمة البشعة - بإذن الله - أو تقللها:

ــ أتمتة الخدمات الحكومية التي تقدَّم للجمهور، وعدم السماح بالتدخل البشري نهائيًّا.

ــ سرعة تنفيذ وتطبيق الحكومة الإلكترونية.

ــ تخصيص القطاعات الخدمية.

ــ منح مكافآت شهرية مقطوعة مجزية للموظفين والمراقبين الذين يعملون في مقابلة الجمهور.

ــ فتح وتخصيص قنوات رسمية متعددة، وتسميتها بذلك؛ للإبلاغ عن هذه الجريمة.

ــ تسهيل إجراءات الإبلاغ، وعدم ترهيب المبلغين بالبيروقراطية المعقدة.

ــ مساندة ودعم إدارات المتابعة والرقابة في الإدارات الحكومية بالموظفين المؤهلين قانونيًّا، والمشهود لهم بالنزاهة، ومنحهم صلاحيات للرفع بأي موظف أو مسؤول متجاوز، ومحاسبته، ووضع إجراء يتيح للمواطنين رفع الشكاوى لهم من تسلُّط الموظفين والمسؤولين في تلك الإدارات.

ــ توعية وتثقيف الموظفين والمواطنين ببشاعة وجرم هذا العمل في وسائل الإعلام ووسائل التواصل الاجتماعي.

ــ التشهير بمن يثبت عليه القيام بهذه الجريمة في نشرات الأخبار ووسائل الإعلام الحكومية المختلفة.

أخبار قد تعجبك

No stories found.
صحيفة سبق الالكترونية
sabq.org