سلطان بن سلمان: المناضل الذي استعاد آثارنا المنهوبة

سلطان بن سلمان: المناضل الذي استعاد آثارنا المنهوبة

 كانت الصورة في أذهان العالم عن المملكة تنحصر بين "نفط" و"جمل"، بترول تدفق من باطن الأرض لمجتمع كان يعيش حياة البداوة ولا غير، أما الآن فقد عرف العالم أننا بلد حضارة، وأننا لسنا حديثي نعمة، وأن الجزيرة العربية كانت خضراء؛ فهي مهد الحضارات وتغصّ بالخيرات وتشهد على الكثير من رحلات التجارة العالمية.
 
لم تكن لهذه الصورة أن تتحقق وتصبح واقعاً لولا الجهد الكبير الذي بلذته هيئة السياحة والآثار؛ ممثلة في قائدها الأمير سلطان بن سلمان بن عبدالعزيز، الذي عمل على أكثر من مسار لتصبح السياحة -التي كانت تواجه رفضاً مجتمعياً- واقعاً يتسابق له الكبار قبل الصغار، وتحولت السياحة والآثار من مشروع حكومي إلى شراكة مجتمعية يؤازرها كل أطياف المجتمع؛ حتى أضحت المورد الأول للفرص الوظيفية والقطاع الثاني المسعود بعد البنوك.
 
الأمير سلطان بن سلمان بن عبدالعزيز المولود في يونيو 1956م، عُيّن بأمر ملكي في الثاني عشر من شهر محرم من عام 1421هــ؛ فعمل على بناء مؤسسة حكومية بروح شابة، أحاط نفسه بالرجال الأمناء الأقوياء، وانخرط في ورشة عمل لتغيير ثقافة الرفض للسياحة المحلية إلى جعلها ضرورة مُلِحّة لكل أطياف المجتمع، يتذكر الأمير سلطان بن سلمان الآن -وهو الذي أمضى 12 عاماً في السياحة- التحذيرات التي أطلقها أكثر الناس قرباً له، عندما قالوا له: "أنت تدخل عش الدبابير"؛ فالسياحة في المجتمع غير مقبولة، ووطننا صحراء قاحلة ليس فيها مقومات، وإنجاز ذلك يحتاج لقرون من العمل وميزانيات هائلة وكبيرة جداً.
 
لم يصغُ الأمير لهذه النصائح التي لم تقرأ تاريخ الوطن ومستقبله، وما يحمله من كنوز أثرية ستجعل من هذه الصناعة مورداً مالياً كبيراً يتفوق على النفط.
 
في جلسة خاصة قال لأربعة أشخاص هو خامسهم: "لو استمعت لنصائح أقرب الناس وأكثرهم حباً لما قبلت العمل في السياحة؛ فالتحديات كبيرة والأهوال واضحة في تلك الفترة؛ لكنني قَبِلت التحدي، وقلت للأمير سلطان بن عبدالعزيز -ولي العهد رحمه الله- الذي رشحني لهذا المناصب: على بركة الله".
 
 يعرف الجميع أن الأمير سلطان بن سلمان هو أول رائد فضاء عربي مسلم، ويعرف الجميع أيضاً أن الأمير سلطان الذي يحمل درجة الماجستير في العلوم الاجتماعية والسياسية من جامعة سيراكيوز في الولايات المتحدة الأمريكية هو رجل أمن أحيل إلى التقاعد عام 1996م وهو برتبة عقيد طيار في القوات الجوية الملكية السعودية، ويبدو أن خلفية الأمير العسكرية وصلابة الأعمال والتدريبات الشاقة التي تلقاها في المؤسسة العسكرية جعلته يُدرك أنه مهما كانت الصعوبات والتحديات في قطاع السياحة؛ فإن تغيير الصورة السلبية أمر ممكن، وأسهل مما يتوقعون.
 
مرت هيئة السياحة والآثار بمخاضات كثيرة قبل أن تصل إلى هيكلها الحالي وتصبح الجهة الرسمية الأولى المشرفة على صناعة السياحة وقطاع الآثار؛ لتتحول السياحة من مربع الرفض إلى مربع اعتمادها قطاعاً إنتاجياً رئيساً في الدولة؛ خاصة فيما يتعلق بجذب المواطن السعودي للسياحة الداخلية، وزيادة فرص الاستثمار وتنمية الإمكانات البشرية الوطنية وتطويرها وإيجاد فرص عمل جديدة للمواطن السعودي.
 
وخلال هذه السنوات الـ 12 الماضية لتربُّع الأمير على عرش هذه الهيئة، يدرك العاملون معه مستوى الصرامة والدقة في الأداء، وقدرته الفائقة على العمل على مستويات ومسارات متوازية دون أن يحدث بينها أي تداخل أو تقاطع؛ فتجده في حراك لا يهدأ محلياً وخليجياً وعربياً ودولياً لإبراز وجه المملكة الحضاري، وأمام هذه الحركة الدؤوبة التي تجعل من الأخطاء أمراً متوقع الحدوث؛ إلا أنه يخرج من مغامرة التحدي بأقل الخسائر والأخطاء؛ فنجح في بناء شراكات مع مؤسسات الدولة المختلفة، وقبلها مع العلماء والمشايخ وطلبة العلم، غايته من ذلك بناء نسيج موحد غير قابل للاختراق، وتحقيق رأي واحد حول السياحة والآثار وعلاقتها بالدين، وأن الحالة بينهما "تَصالح وتكامل.. لا تصادم وتنافر".
 
ولأنه لم يكن هناك من يدرك قيمة التراث في بدايات تأسيس هذه البلاد، تعرضت الكثير من القطع الأثرية إلى السرقة والنهب من أشخاص وخبراء قَدِموا إلى المملكة للعمل؛ حيث عمل الأمير سلطان بن سلمان -وعلى أكثر من مستوى- على استعادة القِطَع المنهوبة، ونجح في استعادة أكثر من 15 ألف قطعة أثرية بعضها كان موجوداً لدى أمريكيين عملوا في "أرامكو" السعودية، وأثناء أعمال التنقيب عثروا عليها وأخذوها معهم إلى بلدهم.
 
يحلم سلطان بن سلمان -صاحب النظرة الثاقبة والاطلاع الواسع- بأن يرى حضارة بلده وتاريخها المجيد حاضراً ليس لدى العالم الذي يجهلنا فقط؛ وإنما لدى جيل اليوم من أبناء الوطن؛ حيث قرر -وبدعم من القيادة- إطلاق مشروع "عيش السعودية"؛ مستهدفاً أكثر من 5 ملايين طالب وطالبة بهذا البعد الثقافي في المملكة.
 
وإذا جمعك به لقاء في مارثون الحياة ستشعر بأنك أمام إنسان تعب كثيراً في بناء ثقافته، وأمام روح مهمومة بالبحث والسؤال والتقصي والوقوف على حقائق حضارة بلده وتاريخها بأدق تفاصيلها.
 
واليوم، وبعد 12 عاماً من رحلة بناء اقتصاد السياحة، يبذل الأمير سلطان بن سلمان جهداً لا يقل عن جهد التأسيس والبدايات لإبراز البعد الحضاري للمملكة لتعميق فهم الإنسانية لتاريخ المملكة، من خلال إقامة المعارض التي تشكل نافذة لرؤية المملكة من زاوية أخرى في أرقى الجامعات العالمية وأشهرها سمعة، كما عمل على جلب أمهر بعثات التنقيب عن الآثار في المملكة؛ غايته من ذلك تعميق فهم الامتدادات التاريخية والجذور التي تقوم عليها المملكة كوريثة لحضارات عظيمة قامت على الجزيرة العربية، وكحاضنة للحرمين الشريفين، وأنها قلب الإسلام الذي انتشر نوره لأصقاع الدنيا، وأثّر في جميع الثقافات والحضارات التي أتت بعده، وصار اليوم أسرع الأديان انتشاراً في العالم؛ برغم ما اعتراه من محاولات فاشلة لتشويهه، ومن محاولات لتقديمه للعالم بطريقة لا تمت لروحه السمحة بصلة، ولا تمثل الدين الذي احترم الحضارات التي قبله وتعايش مع الأفكار والديانات الأخرى بانفتاح وتقبل.
 
بالأمس القريب أطلق الأمير سلطان بن سلمان بن عبدالعزيز من جامعة كنساس الأمريكية معرض "روائع تراث المملكة"، وقال أمام حشد من الباحثين والمهتمين بصناعة الآثار: "إن النظرة الشمولية للمملكة والإطلالة على تاريخها ومكوناتها الإسلامية والسياسية والاقتصادية في الماضي، يقود لفهم ما تقوم به تحت قيادة ملك محنك يعي أهمية استلهام التاريخ، ملك له رؤية وصاحب قيم، يعرفه مواطنوه بحبه لهم وحرصه عليهم، ويعرفه العالم بحكمته ومواقفه، وهو أكثر العارفين بأهمية البقعة الجغرافية والمكانة الإسلامية والاقتصادية التي تمثلها المملكة؛ وذلك ما جعل خادم الحرمين الشريفيين الملك عبدالله بن عبدالعزيز -حفظه الله- يقود بلاده للتنمية والتطور الداخلي؛ لتكون في عداد الدول الفاعلة دولياً".

أخبار قد تعجبك

No stories found.
صحيفة سبق الالكترونية
sabq.org