قصة تحوّل أول قلعة أثرية بتبوك لموقف سيارات.. ذهول لا علاقة له بمقر الإمارة!

لوحة تراثية جرفتها سيول الحضارة الإسمنتية يرويها لــ"سبق" الباحث "العمراني"
قصة تحوّل أول قلعة أثرية بتبوك لموقف سيارات.. ذهول لا علاقة له بمقر الإمارة!

يروي باحث متخصص في تاريخ منطقة تبوك لـ"سبق"، قصة تحول أول قلعة أثرية بتبوك لموقف سيارات، وإزالتها قبل 39 عاماً؛ حيث أكد أنه لم يسبقه أحد في التوثيق لهذه القلعة التاريخية من قبلُ، والتي جرّفتها سيول الحضارة الإسمنتية؛ مؤكداً أن المبنى كان مذهلاً من الناحية التراثية، ولم يكن مقراً للإمارة.

 

وتفصيلاً، فإلى قبيل منتصف التسعينيات من القرن الماضي الهجري، كان حي البلدة القديم بمدينة تبوك يزخر بالعديد من الأطلال الأثرية والتراثية ومن بينها كانت تطل "قلعة المالية" أو "قصر الأمير عبدالله السديري" ببنائها الفريد والعتيق الذي يمثل النموذج المعماري النجدي السائد في تلك الفترة؛ حيث تعتبر القلعة أول قلعة سعودية شُيّدت في مدينة تبوك بعد دخولها تحت ظل الحكم السعودي الرشيد في عام 1340هـ، قبل أن تتحول إلى موقف للسيارات، بعد أن تم هدمهما لهذا الغرض.

 

لوحة تراثية

وتستعرض "سبق" في هذا التقرير مع الباحث المتخصص في تاريخ منطقة تبوك عبدالله بن ناصر العمراني، قصة "قلعة المالية" بتبوك، والذي قال إن وجودها كان بجانب المسجد الأثري محاطة بالبيوت الطينية القديمة، ويشكل لوحة تراثية تبعث في النفس الحنين للماضي والشعور بروح الأصالة التي تُميّز بلدة تبوك القديمة عن غيرها من الأحياء إلا أنه -ومع الأسف- لم يُكتب لها العمر المديد كـ"قلعة تبوك"؛ حيث جرفتها سيول الحضارة الإسمنتية الرهيبة؛ مبدياً استغرابه من إزالة صرح تاريخي لغرض أن يكون موقفاً للسيارات.

 

لم يسبقني أحد!

وقال "العمراني": "لم أعتد على أن أوثّق لمبنى ليس له وجود إلا في ذاكرة المعمرين الذين عاصروا القلعة؛ فعملية التوثيق تتم بما يقع بين يديّ من صوراً أكون قد حصلت عليها بعد عناء شديد، أو تكاد تكون مصادره منعدمة؛ حيث لم يسبق لأحد أن وثّق لهذه القلعة التاريخية من قبل، ورأيت أن أستعرض ما توفر لديّ من معلومات وصور عنها.

 

وصف القلعة

وأوضح: "كانت تقع في حي البلدة القديم محاذية للمسجد الأثري، وتبعد عنه حوالى 150 متراً من جهة الجنوب، بُنِيت أساساتها من الحجارة، وكذلك الجزء السفلي من جدرانها بارتفاع مترين من سطح الأرض باستثناء الجدار الذي يحمي بوابة القلعة؛ فإنه بُنِيَ كاملاً من الحجارة، وبني الجزء العلوي من جدرانها وأبراجها باللبن والطين، ولها أربعة أبراج، يبلغ ارتفاع البرج الواحد 12 متراً وجدرانها 10 أمتار، وهي مربعة البناء، وتبلغ أطوالها 20 م2، وتتكون من دورين؛ أرضي وعلوي؛ أما الدور الأرضي فهو مكون من ثمانية غرف تبلغ مساحة كل غرفة منها 4م2، وتفتح على فناء داخلي وليس بها نوافذ خارجية، جُعلت كلها لتخزين المؤن والأرزاق التي كانت تجلب من ضباء إلى تبوك على ظهور الجمال".

 

حديد سكة القطار

وتابع: "البوابة الرئيسة للقلعة تقع في منتصف السور الشرقي منها، ويوجد بالقرب من البوابة درج يوصلك للدور العلوي من القلعة يحوي ثلاثة غرف خُصصت لمكاتب دائرة المالية والجمارك، وأول هذه الغرف وأوسعها هو مكتب مدير المالية والجمرك، ثم التي تليها خُصصت لمكتب موظف صندوق المالية والجمرك، والأخيرة عبارة عن مكتب لمحاسب صندوق المالية والجمرك؛ أما المواد المستخدمة في سقف غرفها فاستُخدم فيها (حديد سكة القطار) بشكل ملحوظ في تسقيف القلعة؛ حيث وُضع بشكل طولي بجوار بعضه، ومد من فوقه أعمدة خشب الأثل، ووضع من فوق خشب الأثل جريد النخل الذي أُزيل سعفه".

 

ليست مقراً للإمارة

وبيّن: "لم تذكر لنا المصادر أنها استخدمت مقراً لإمارة تبوك كما هو المتعارف عليه عند بناء مثل هذه القلاع، بحيث تكون هي المكان الرئيس للسلطة التنفيذية بالمدينة؛ بل ارتبط اسمها كثيراً بمالية تبوك في أكثر من موضع، وأطلق عليها اسم "قلعة المالية".

 

متى بنيت؟!

وأضاف: "مؤسف أن القلعة لا تحمل لوحة تأسيسية توثّق لنا تاريخ هذا البناء الفريد من نوعه في تبوك سوى ما تواتر لديّ من معلومات شفهية جمعتها ممن عاصروا هذه القلعة، ولم أغفل عما ورد إليّ من مصادر أمثال ما دوّنه الشيخ حمد الجاسر الذي زار تبوك في عام 1367هـ فكان أول من تَحَدّث عنها قائلاً: "وقصر كبير بني من اللبن والطين في أول عهد الحكومة، واتخِذَ مقراً لدائرة المالية والجمارك"، ثم ما ذكره الرحالة جون فلبي عند زيارته الأولى لتبوك في عام 1371هـ - 1951م؛ حيث قال: "أما القلعة الأساسية للمدينة التي تُعرف باسم قصر السديري وقد بناها عبدالله السديري؛ فتقع في الجهة الشرقية من السوق، وتحتل مكاتب المالية والجمارك هذه القلعة".

 

ذهول المشاهدة

واستطرد: وفي عام 1380هـ نقل لنا الشيخ عبدالله الجبرين مشاهداته لبلدة تبوك خلال رحلته للشمال الذي ذكر فيها القلعة بأكثر من موضع؛ فعند دخوله لبلدة تبوك، أذهله ما رآه من حجم ارتفاع المبنى؛ فقال: "وقصر رفيع البناء بحجارة وطين، ومنه يتفرع السوق ثلاثة فروع كلها معمورة بالدكاكين"، ولما أراد أن يوثق للدوائر الحكومية الموجودة بتبوك في تلك الفترة، قال: "وأما الدوائر الحكومية فكلها من حجر وإسمنت وحديد أرضية؛ إلا بيتين حكوميين قديمين جداً؛ أحدهما الذي في السوق -يقصد قلعة تبوك الأثرية- وثانيهما القصر الكبير الواسع متباعد الأطراف الواقع في طرف البلاد الأوليّ شرقاً إلى القبلة بينه وبين البلاد الأولى عمارات حجرية وحكومية -يقصد قصر عبدالله السديري أو قلعة المالية- فإن هذين القصرين مبنيان بطين وحجارة وبهما أثر القدم".

 

واستدرك: "ويظهر من خلال وصفه لمباني تبوك أنه استخدم القصر كمَعْلم ليسهل على القارئ فهمُ المواقع الذي يدوّنها، كما نلاحظ هنا حينما قال: "وهناك أراضٍ لم يبنَ فيها وفي شرقيها وقبلتها القصر الواسع القديم؛ يقصد قصر عبدالله السديري".

 

توثيق "عبدالقدوس"

ويواصل "العمراني" روايته قائلاً: "في شهر محرم من عام 1392هـ زار الكاتب عبدالقدوس الأنصاري، مدينة تبوك على هامش رحلته للبنان، ومَكَث فيها أكثر من يوم نقل لنا هذا الوصف الذي اعتمد فيه على ما ذكره مراسل مجلة المنهل في تبوك في ذلك الوقت محمد علي العامر؛ حيث قال: وثانية القلعتين الأثريتين -يقصد قصر السديري- قالوا إنها أحدث عهداً بكثير من زميلتها -يقصد قلعة تبوك- وقد استعملت في سنة 1370هـ مقراً لمالية تبوك، وظلت كذلك نحو عشر سنين، والآن هي مخزن تابع لمالية تبوك، ولها أربعة أبراج يبلغ ارتفاعها 12 متراً".

 

حماية من السرقات

وواصل: "من خلال ما تَوَفّر لديّ من معلومات جمعتها من مصادر منوعة حتى تاريخ كتابة هذا البحث؛ أقول إنها بُنِيَت إبان تولي الأمير عبدالله السديري إمارة تبوك بين عامي (1351هـ - 1354هـ)، لغرض حفظ الأرزاق التي كانت تأتي من ضبا إلى تبوك؛ حيث إنه كثيراً ما كانت تتعرض هذه القوافل للسرقات من قطّاعي الطرق، ونُسب اسمها للأمير عبدالله السديري لكونها بُنيت في عهد إمارته لتبوك، واستُخدمت كمقر لدائرة المالية والجمارك، وكذلك خصص جزءاً كبيراً منها لكي يكون مستودعاً للمالية كما جاءت الموافقة على إحداث وظيفة مأمور لمستودع مالية تبوك في عام 1356هـ وصُممت غرفها لكي تكون مخزناً لموارد الجنود وأرزاقهم، وهذا يظهر جلياً في تصميم القلعة الفريد من نوعه.

 

استحداث وإزالة

وقال "العمراني" عن تاريح الإزالة: "في عام 1380هـ تم استحداث مبنى جديد لمالية وجمرك تبوك عند مدخل المدينة الشمالي، وهذا المبنى هو حالياً ما يُعرف بمستشفى الملك فهد، وظلت القلعة عبارة عن مستودع ومخزن لمالية وجمرك تبوك حتى تاريخ إزالتها عام 1398هـ".

 

توسيع المسجد

وتابع: "قبل الإزالة، وفي شهر شعبان من سنة 1393هـ زار الملك فيصل مدينة تبوك، وعلى هامش زيارته زار المسجد الأثري وصلى به ركعتين، وأمَر حينها بتجديد وتوسيع المسجد، وفي شهر صفر من سنة 1394هـ اعتمد مشروع إنشاء مسجد في تبوك بدلاً من المسجد الأثري الموجود بها؛ فتمت إزالة المبنى الأثري للمسجد وإعادة بنائه من جديد".

 

ظروف غامضة!

وبيّن: "أضيف للمسجد ما حوله من فناء، ودُفنت البئر التي كانت داخل هذا الفناء، وتم الانتهاء من بنائه في عام 1397هـ، ولأن المساحة الخالية التي كانت تفصل ما بين القلعة والمسجد الأثري لا تتجاوز 150 متراً، تَقَلّصت تلك المساحة كثيراً عند التوسعة الجديدة؛ فأصبح وجود القلعة يشكل خناقاً مرورياً على مرتادي السوق، ومن يُداومون على الصلاة في المسجد الأثري؛ فتقرر توسعة المنطقة المجاورة للمسجد الأثري وجعلها مواقف خاصة بزوار المسجد؛ فتمت إزالتها في عام 1398هـ، ومعها أزيل جزء من تاريخ بلدة تبوك القديمة في ظروف غامضة لا يُعرف فيها المتسبب؛ فقُيدت القضية ضد مجهول.

 

أخبار قد تعجبك

No stories found.
صحيفة سبق الالكترونية
sabq.org