نعم "للعصبية الوطنية"

نعم "للعصبية الوطنية"

الأيديولوجيا تعني تصورًا (ما) للأشياء والأفكار. ويكون هذا التصوُّر نتيجة لعقيدة سماوية معينة، أو فكرة وضعية (ما)، قد تكون دينية أو سياسية أو اقتصادية أو ثقافية.. فينعكس ذلك على تفكير الفرد وتصرفاته وعلاقته بأفراد مجتمعه؛ ما يخلق جوًّا من الكُره والتفرقة في حل اختلافهم في المعتقدات (المذاهب الدينية) والأفكار بسبب تعصب كل فرد منهم لتصوره الخاص به، كما قد ينجر عن ذلك صراعات فكرية أو جسدية طاحنة.

أما "العصبية" فنقول: إن العصبية بمعناها التقليدي تعني أن يدعو الرجل إلى نصرة عصبته، أي أقاربه من جهة الأب، والتحالف معهم على من يعاديهم، ظالمين أو مظلومين. وقد كانت العصبية وسيلة من وسائل الرجل (البدوي) للتكيف مع البيئة لحماية كيانه القبلي، وتراثه الذي يتناقله جيلاً بعد جيل. وتتميز هذه العصبية بأنها موحدة، شاملة، ذات قوة قهرية، تمارس قدرًا كبيرًا من السيطرة على أفراد القبيلة الواحدة. وقد كانت للعصبية القبلية قوة كبيرة، تعمل على ترابط المجتمع (البدوي) في وحدة كلية، يشعر فيها كل فرد بالطمأنينة النفسية والمادية.. لكن العلامة ابن خلدون طوَّر هذا المفهوم التقليدي للعصبية، وبلوره في مفهوم جديد أكثر شمولية، وأعظم نفعًا من المفهوم التقليدي، وأصبحت العصبية عنده لا تشمل أبناء القبيلة الواحدة الذين تربطهم ببعضهم صلة الرحم والقرابة فحسب، بل تعدى مفهومها ذلك، واتسع أكثر؛ ليشمل أهل الولاء والحلف، أما النسب فهو يعتبره ركنًا جزئيًّا من مجموعة الأركان المشكِّلة للعصبية، وليس الركن الأساس المكوِّن لها؛ إذ يقول: "اعلم أن كل حي أو بطن من القبائل وإن كانوا عصابة واحدة لنسبهم العام ففيهم أيضًا عصبيات أخرى لأنساب خاصة.. فهؤلاء أقعد بنسبهم المخصوص، ويشاركون من سواهم من العصائب من النسب العام، والنعرة تقع من أهل نسبهم المخصوص ومن أهل النسب العام؛ وذلك أن الرياسة لا تكون إلا بالغلب، والغلب إنما يكون بالعصبية كما قدمناه؛ فلا بد أن تكون من عصبية غالبة لعصبياتهم واحدة واحدة". ونحن لا نرى عصبية غالبة لكل العصبيات الموجودة في وطننا أقوى وأشد التحامًا من عصبية الوطن التي تجمع الجميع تحت لوائها الحامل لشعار الشهادتين، وتجندهم جميعًا تحت صفوفها لخدمته بكل صدق وإخلاص، والذود عن حماه والدفاع عنه. وبهذا المعنى يصبح مفهوم العصبية عند ابن خلدون يحمل معنى الشعار الذي ندعو إليه، ألا وهو "العصبية الوطنية"؛ لأن العصبية للدولة هي الحامية لها المدعمة لأركانها. وفي هذا المقام يقول ابن خلدون: "والسبب في ذلك أن الملك إنما يكون بالعصبية، وأهل العصبية هم الحامية الذين ينزلون بممالك الدولة وأقطارها.. ومزاج الدولة إنما هو بالعصبية، فإذا كانت العصبية قوية كان المزاج تابعًا لها، وكان أمد العمر (يقصد عمر الدولة) طويلاً، والعصبية إنما هي بكثرة العدد ووفوره كما قلنا".

فها هو العلامة المفكر ابن خلدون كيف يرى الوطنية، وكيف يصورها بعد كل هذا التجوال عبر مختلف الأوطان. لقد توصل إلى حقيقة واحدة لا ثاني لها، هي أن شوكة أي دولة لا يمكن أن تقوم دون عصبية، وهو يقصد عصبية واحدة، هي التعصب للدين والوطن، فيقول: "وذلك أن الملك إنما يحصل بالتغلب، والتغلب إنما يكون بالعصبية واتفاق الأهواء على المطالبة، وجمع القلوب وتأليفها إنما يكون بمعونة من الله في إقامة دينه.. والسبب في ذلك كما قدمنا أن الصبغة الدينية تذهب بالتنافس والتحاسد الذي في أهل العصبية (يقصد عصبية النسب)، وتفرد الوجهة إلى الحق، فإذا حصل لهم الاستبصار في أمرهم لم يقف لهم شيء؛ لأن الوجهة واحدة، والمطلوب متساوٍ عندهم، وهم مستميتون عليه.. وهذا لما قدمناه من أن كل أمر تحمل عليه الكافة فلا بد له من العصبية، وفي الحديث الصحيح (ما بعث الله نبيَّا إلا في منعة من قومه). وإذا كان هذا في الأنبياء، وهم أولى الناس بخرق العوائد، فما ظنك بغيرهم أن لا تخرق له العادة في الغلب بغير عصبية".

هذه هي العصبية التي ندعو إليها، ونشجع عليها بكل ما أوتينا من قوة، ولا نرى غيرها من العصبيات مجديًا ولا نافعًا لخدمة وطننا، والسير به قدمًا لتحقيق الرؤية المنشودة، وتوفير الرخاء في كل أرجاء مملكتنا الحبيبة، مملكة الإنسانية التي جعلها الله مقصد الحجاج والمعتمرين من كل فج عميق، وبث فيها من السكينة والطمأنينة ما لم يمنحه لسواها من الأوطان، فقال سبحانه وتعالى: { إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ مُبَارَكًا وَهُدًى لِّلْعَالَمِينَ * فِيهِ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ مَّقَامُ إِبْرَاهِيمَ ۖ وَمَن دَخَلَهُ كَانَ آمِنًا ۗ ...} (آل عمران: 96 - 97). فلماذا نبدِّل بأيدينا طمأنينة مملكتنا خوفًا، وسكينتها رعبًا، بالتناحر والاختلاف والتعصب لتقسيمات إقليمية وطائفية "مذهبية"، ولأفكار أيديولوجية، إنما هي من وضع عقول رجال قصر، بدل التمسك بشريعة رب الأرباب وخالق تلك الألباب العارف بمكامن النقص فيها مهما بلغت من العلوم؟ ألا يجدر بنا عوض ذلك السهر على تدعيم ركائز هذه الطمأنينة والسكينة التي خص الله بها مملكتنا، وكرمها دون سواها من الأوطان.

ختامًا.. يبقى حبيبنا وقدوتنا رسولنا نبي الأمة - صلى الله عليه وسلم - هو الوحيد الذي استطاع تحقيق ذلك بفضل الله وإرادته، ولو لم يكن له - صلى الله عليه وسلم - معجزة إلا توحيد العرب على العصبية الإسلامية لكفت على إثبات نبوته، وقد شهد الله سبحانه وتعالى على ذلك فقال: {وَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ ۚ لَوْ أَنفَقْتَ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا مَّا أَلَّفْتَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ وَلَٰكِنَّ اللَّهَ أَلَّفَ بَيْنَهُمْ ۚ إِنَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ} (الأنفال: 63).

أخبار قد تعجبك

No stories found.
صحيفة سبق الالكترونية
sabq.org