تصوير عبدالملك سرور: إمراه تخطت السبعين عاما من عمرها تجلس في حجرة تطل على 20 فدانا. أى ما يقارب من 100 الف متر تحوى أثمن الكنوز الإسلامية المجهولة في منطقة البلقان بالإضافة إلى مقام مراد ومسجد مغلق ومطبخين وسبيل الماء وساحة التواشيح المغطاة والمسجد المهدم وغيرها من الأثار الإسلامية التي شهدت أحداثا جساماً غيرت مجرى التاريخ الاسلامي الحديث .
لم نكن ندرك بأي حال من الأحوال وجود تلك المنطقة المطمورة في الطريق إلى فارنا ساحرة البحر الاسود وبالصدفة وجدنا لوحة يزينها مسجد يسمى " آك بابا تظيل " ويعنى (الظل الأبدي) بالتركية أو الحماية الممتدة بالبلغاري كما شرح لنا دليلنا السياحي.
رأينا اللوحة مترجمة إلى البلغارية والألمانية والإنجليزية وتعني أن هذا المكان ليس مقدسا بقدر ما هو شاهد على العديد من الأحداث التاريخية ولم تحدد اللوحة ماهية تلك الاحداث. قررنا أن نتجول فلا يوجد أحد في المكان والمساحة كبيرة للغاية والأشجار تغطى أجزاء كبيرة منه. صعدنا إلى حجرة عالية وكانت المفاجأة أن وجدنا سيدة عجوز مهيبة تجلس بمفردها في مكتب وسط الحجرة مليئة بالكتب القديمة والصور. ابتسمت لنا وتحدث اليها الدليل وانتظرنا حتى انتهاء الحوار الذى أفضى الى إنها عبرت عن ترحيبها بنا كوننا عربا. وقالت بالبلغارية: "هذا جيد عندما يأت العرب الى هنا وبنبرة عتاب على المسلمين قالت حتى المسلمون لا يعرفون شيئا عن بابا تظيل" .
- وبدأت تروي..:
طلبنا التعرف عليها في البداية قالت أنا نيافانا مسركوتوف من السلالة البلغارية الاولى -تقصد بعد البحث إنها من السكان الاصليين-قالت أحرس هذا المكان منذ30 عاما دون كلل. لدى بنتان وولد. أحب هذا المكان وقرأتلـ"سيبويه" و"البخاري" و"مسلم" وقرأت القرآن وأحاديث النبي محمد و"الجبرتي" وأعترف بأن حضارتنا لا بل حضارتهم – تقصد أوربا – منبعها الحضارة الاسلامية السابقة عليها".
قالت: تعالوا معي. تحركت نيفانا بخفة لا تتناسب وعمرها. دخلت بنا الى المسجد المغلق وفتحته. كان عبارة عن سبعة أضلاع من الرصاص المصبوب يتوسطه شيء بارز تقول نيافانا أن الروايات تختلف حوله. فالبعض يقولون عنه إنه قبر. وأخرون يقولون إنه شاهد وفئة ثالثة تقول إنه خزينة لطائفة العلويين بـ"فارنا" وأنا أرجح - أي نيافانا - : "قول المؤرخين بأنه خزينة للطائفة العلوية التي لها طقوس تختلف عن بقية المسلمين. وحكت لنا كيف أنهم يأتون هنا في شهر أغسطس من كل سنة ويقيمون طقوسهم ويعتقدون في شيء غريب". تصف ذلك بقولها:"يدخلون أيديهم داخل فتحة هنا وأشارت إلى الفتحة داخل الخزينة ليستمد الإنسان الطاقة التي تعينه سنويا على حياته هكذا يعتقدون وأنا أراقبهم طوال 30 عاما. يأتون من لبنان وفلسطين". نظرت أنا الى الدليل السياحي ؟ ففهمت نظرتي وأكملت :"هنا يأتي بعض الحاخامات تأتى الى هنا وتجلس معي".
أخذتنا نيافانا الى الساحة الجنوبية وهى مكان فسيح عشبى به بعض الصخور. قالت:"هنا التاريخ لو أتيح للصخور التحدث لسمعتم الأهوال. ففي هذه الساحة قتل 160 الف مقاتل من جيش الأتراك وجيش أوربا بقيادة المجر في معركة (فارنا) الشهيرة التي سبقت فتح القسطنطينية مباشرة. أنا درست التاريخ بدقة وعرفت كم كان العثمانيون مهرة في الحروب". أشارت بيديها إلى ساحة كبرى لا يصد البصر فيها إلا الاشجار العالية. وقالت: "هنا قعت معركة فارنا منذ 700 عام بين سلطان الاتراك مراد الثاني وقوات أوربا قيادة يانوس وروت لنا قصة تنحى السلطان مراد وتولية أبنه الصغير وطمع أوربا في الدولة العثمانية ثم عودة مراد الى قيادة الجيش العثماني لمواجهة الاوربيين. هنا حشدت أوربا 170 الف جندي من 7 ممالك وحشد الأتراك 125 الف مقاتل والتقيا هنا على أبواب فارنا وأنهزم الأوربيون وقتل ملوك الجيوش الأوربية".
أشارت إلى مكان حجرى ضخم وأضافت: "هنا أتخذ السلطان محمد بن مراد القرار.هنا مقام جلوس سلطان المسلمين الأكبر مراد الثاني الذى أذل ملوك 7 ممالك أوربية عظمى على رأسها المجر وفرنسا.
حيث أشارت: مقام السلطان مراد عبارة عن صخر متراص وكأنه مجلس على راس صخرة تشبه كرسيا كبيراً. أشارت مرة أخرى وقالت: "هنا أعطيت اشارة البدء بالزحف على القسطنطينية لتسقط عاصمة الغرب المسيحي في يد محمد الفاتح ابن مراد الثاني بعد فارنا ومن هنا أنا احب المكان ولا اسمح لأحد بان يعتدي عليه حتى من الحكومة نفسها ومن المقاطعة والبلدية".
مضيفة: "حاولت البلدية غلق المكان كثيرا فلم تفلح وكنت انا من اقف امامهم. هذا تاريخ لا يطمس أبدا. هنا الشاهد الاكبر على انهيار أكبر ممالك اوربا. نشاطها واصلت بنا الجولة وأشارت إلى مكان كبير ينقسم إلى جزأين وقالت: "هنا عندما كانت بلغاريا تحت الحكم الإسلامي كان المسلمون يقدمون الطعام لكل إنسان يريد أن يأكل وأنتم تسمونها في الشرق الاوسط (سبيل). هنا بيت الزاد وبالأدق هما مطبخان كبيران لإعداد الموائد والطعام".
ثم فتحت لنا ساحة (التواشيح) لتقول:"هنا كان يقوم المسلمون بالغناء الديني المميز - تقصد الابتهالات والتواشيح - وتضيف:" كان من المسلمين من يريد أن يعتزل الناس فيأتي الى هنا ويقيم هنا وينشد ومن معه القصائد التى تُعّرف بالله بالنبي محمد ويسمون اليوم بـ"الدراويش" وبالأخص في تركيا. ثم أشارت الى اتجاه القبلة. في غفلة صغيرة منها فتحنا الهاتف الجوال للتأكد من اتجاه القبلة فوجدنا فعلا أنها أشارت الى الاتجاه الصحيح. وزاد تعجبنا وهي تشير غابة من الأعمدة وتقول بقايا مسجد ثان في المنطقة وكان على ما يبدو مخصص للسلاطين والامراء عندما يأتون هنا للراحة والترفيه.
سألناها عن عمر المكان قالت إنه بني منذ ما يقارب 2000 عام قبل الميلاد وبناه الرومان. ثم زاد فيه الفرس ثم المسلمون الأتراك. وتعاقبت عليه 9 حضارات اسلامية وغير إسلامية ولكن ما بقى منه أكثره اسلامي فكل عهد يأتي الى هنا يزيد في البناء. هذا المكان يزوره يوميا 5000 من الاجانب فقط في الصيف الذى يستمر شهرين فقط. ولم اشاهد العرب إلا قليلا هنا وأما المسلمون فأعتقد من سيعلم منهم بوجود "بابا تظيل" فشعور أنه سيأتي عاجلا أم آجلا.
في وداعنا جلست إلى مكتبتها ورفعت بعض الكتب القديمة بعناية وقالت:" ها هو التاريخ الذى يثبت أن هذا المكان له من الأهمية ما يغفل عنه المسلمون أصحابه قبل البلغار أنفسهم".
