السعودية بين "بَرْقِ خُلَّب" و"اتقِ شرَّ مَن أحسنت إليه"!!

السعودية بين "بَرْقِ خُلَّب" و"اتقِ شرَّ مَن أحسنت إليه"!!

قبل البدء.. هل تذكرون الدول التي وقفت ضد المملكة والكويت وحلفائهما في حربها مع العراق إبان اجتياحه الكويت؟
27 سنة هي الفارق بين هذا الموقف المتناقض مع مصالح دول الخليج والدول العربية وموقف تلك الدول المتخاذل تجاه التصويت الأممي لإدانة إيران لانتهاكاتها الواسعة لحقوق الإنسان، الذي أصدرته الجمعية العامة للأمم المتحدة الأسبوع الماضي.
فجميع تلك الدول امتنعت عن التصويت على إدانة إيران، وآثرت الصمت على الانتهاك الصارخ لحقوق الإنسان، وكل أنواع القتل والتشريد والتعذيب وانتهاك الحرمات التي تمارسها إيران وأذرعتها الإرهابية في سوريا والعراق واليمن وأفغانستان، عدا ما تقوم به في داخل إيران من إعدامات، وتزايد القمع للقوميات والأقليات الدينية.
فما هي أسباب وخفايا هذه المواقف المتخاذلة؟ هل هناك مبررات أخرى يرونها ولا نراها حيال هذا الصمت؟!! أم أنه الخوف من إيران؟ أم أنه التغلغل الإيراني في صناعة القرار؟ نأمل أن نجد إجابات شافية من تلك الدول!!.
أما موقف لبنان، التي قدمت لها المملكة الكثير من الدعم السياسي والمالي الاقتصادي والإغاثي، فلم يكن مستغربًا أن يكون موقفًا متخاذلاً وغير مشرّف، فالذراع الإيرانية متغلغلة في مفاصل الدولة حتى الثمالة!! والمخجل أن الحكومة اللبنانية لم تكتفِ بالامتناع عن التصويت بل بكل بجاحة صوتت ضده!! وهو موقف يمثل أفضح صور نكران الجميل، ويتحقق هنا المثل القائل "اتقِ شرَّ مَن أحسنت إليه" في أجلّ صوره.
وفي المقابل، فقد صمتت أو اعترضت على القرار العديد من الدول الإفريقية، منها الصومال وأوغندا والنيجر والكاميرون وكينيا والكونغو والسنغال. وهنا قد يصاب المجتمع السعودي بصدمة أخرى!! فقد قدمت المملكة الكثير من الدعم والمساعدة لكثير من الدول الإفريقية، وتحديدًا الفقيرة منها، فلِمَ هذا الصدود والتخاذل تجاه قضية لا لبس فيها، وشواهدها واضحة أمام العالم بأسره؟!!..
سيزول كل أنواع التعجب والاستغراب إذا علمنا أن الثورة الإيرانية ظلت تعمل في العديد من الدول الإفريقية، ولعقود طويلة، بطريقة منظمة ومستترة، وبهدوء تام؛ لتمرير المد الصفوي فيها. ويأتي ذلك من خلال السياسة الناعمة عبر التبادل التجاري والتسهيلات التجارية، عوضًا عن تقديم المساعدات والعمل الإغاثي، والوصول للتأثير على كبار المسؤولين ورجالات بعض تلك الدول.
وغني عن القول الإشارة إلى الاستراتيجيات الناعمة الأكثر تأثيرًا في جذور المجتمعات، المتمثلة في نشر التشيع الصفوي، والتغلغل في صفوف الدعاة والمؤثرين عبر الجمعيات والمؤسسات التعليمية والدينية والإعلامية والثقافية، وخصوصًا بعد أفول العمل الدعوي السُّني في تلك الدول.
ولا يكاد يخطئ المتابع للشأن الإيراني أن استراتيجية العمل المسلح السري وتهريب الأسلحة والتدريب العسكري عناصر أساسية للتوغل الإيراني في عدد من الدول الإفريقية، وكسب موالين لها.. إذ استطاعت إيران صنع أحزاب إيرانية في بعض تلك الدول، على غرار ما يسمى ظلمًا وعدوانًا بـ "حزب الله" في لبنان، أو الحوثيين في اليمن، ومن ذلك "جماعة الزكزاكي" في نيجيريا.
كما أن إيران، وخلال عقود مضت، عززت علاقاتها العسكرية والاقتصادية والسياسية مع بعض دول القرن الإفريقي ذات الموقع الحساس على خليج عدن والبحر الأحمر، وخير شاهد على ذلك إنشاء قاعدة عسكرية في ميناء عصب الإريتري. والمتتبع للقرار الأممي الأخير يجد أن إريتريا وقفت موقف الضد تجاهه.
والصدمة الأخرى تأتي من تصويت العديد من دول أمريكا اللاتينية ضد القرار، أو الامتناع عنه، وتأتي في مقدمتها البرازيل والمكسيك. وقد يتعجب بعض القراء إذا قلتُ إن لإيران وجودًا أيضًا في العديد من دول أمريكا اللاتينية عبر ذراعها المسمى "حزب الله". وتشير عدد من التقارير إلى أن لديهم كيانات متخصصة في عمليات تهريب المخدرات وغسل الأموال والقدرة على شراء أصوات داخل تلك الحكومات، كما هو الحال في لبنان.
في اعتقادي إن نتائج هذا القرار مؤشر حرج للغاية، ينبغي الوقوف أمامه مليًّا، والعمل على إعادة النظر في سياسة المملكة في عمليات التبادل والتسهيلات التجارية، وتقديم الدعم والمعونة أو القروض للدول الأخرى.. فمعظم الدول التي وقفت ضد القرار أو صمتت حياله كان للسعودية معها مواقف مشرفة في الدعم والمساعدة والإغاثة والتبادل التجاري. وفي المقابل فانتهاك إيران لحقوق الإنسان لا يخفى على شعوب تلك الدول، فكيف خفي على حكوماتها؟
ويستدعي ذلك العمل على مواجهة هذا الطوفان الصفوي، والتحرك بشكل سريع ومنهجي. بلا شك هناك تحركات جوهرية تمت خلال السنتين الأخيرتين في هذا الجانب، لكن ما زلنا بحاجة لرؤية عميقة غير تقليدية، وسياسة خارجية جديدة في التعامل مع تأثير إيران على تلك الدول، تمامًا مثل رؤية 2030 في تطوير الشأن الداخلي للمملكة.
وبلا شك إن ذلك لا يعني الصدام والمواجهة مع تلك الدول، بقدر ما يحتاج إلى موازنة القضايا بمنظار "القوة الناعمة" التي تمزج بين السياسة والحكمة والدراية والدهاء، والعمل الاستخباراتي والاقتصادي والتجاري في التعامل مع تلك الدول، بما يضمن سلامة موقفها تجاه القضايا التي تؤثر على السلم والأمن الإقليميَّين.
و"القوة الناعمة" تستلزم تحركًا مدروسًا ومقننًا على المستوى التعليمي والإعلامي والثقافي في تلك الدول، وإيجاد حلول مبتكرة لإعادة العمل الإغاثي والدعوي، ونشر المذهب السني الوسطي بطريقة مؤسسية ممنهجة، تحت إشراف مباشر من السعودية لمنع أي اختراق للأفراد أو الحركات المتشددة والإرهابية.
نحن على يقين بأن ملك الحزم والعزم ومن خَلْفِه صاحب رؤية 2030 لن يرضوا باستمرار مثل ذلك، ونتوقع أن يكون هناك حراك قوي ومتوازن طويل الأمد لتعديل كفة المعادلة لصالح المملكة دوليًّا.
قبل الختام لا ننسى أن دولاً إسلامية أخرى، مثل عمان وماليزيا والمغرب وإندونيسيا وبنجلاديش ومصر وباكستان وأفغانستان، إما صوتت ضد القرار أو امتنعت عن التصويت!! والأكثر إيلامًا أن تمتنع الكويت عن التصويت. وتلك الدول ينطبق عليها المثل القائل "إنما هو كبَرْقِ خُلَّب"!!.
والخُلّب السحاب الخادع، يُومض برْقُه حتى يُرجى مطرُه وغيثُه ثم يُخلِفُ وينقشع فجأة!!.

أخبار قد تعجبك

No stories found.
صحيفة سبق الالكترونية
sabq.org