بين ريموند وابن كرمان

بين ريموند وابن كرمان

الرسام الهولندي البارع "فان جوخ" حين أهدى عشيقته أذنيه اللتين قطعهما بمحض إرادته فإن ذلك يأتي احتجاجًا على الفقر المدقع الذي كان يعيشه، وتعبيرًا عن الحب الذي يهيم به. هذا الفعل الجنوني أصاب حبيبته بالاندهاش، ولم تلتفت إليه، وتركته وحيدًا. هذا الفنان الذي لفت انتباه أبرع النقاد الفنيين بلوحاته الساحرة والفارهة ما كان يحلم بأن واحدة من اللوحات التي رسمها بريشته سيصل ثمنها إلى مئات الملايين، وقد مات بائسًا فقيرًا ومتهمًا بالجنون.. هكذا فعل به الفقر.

وقتها لم يكن‏ لمواقع التواصل الاجتماعي وجود على عكس أصحاب الحظوظ الجيدة في الفترة الراهنة. مثلاً العجوز البرازيلي (ريموند) عاش معظم حياته فقيرًا ومشردًا حتى وصل عمره إلى 77 عامًا، قضاها متسكعًا في شوارع مدينة برازيليا، يفترش الأرض، ويلتحف السماء. فقط يمارس النظر في سحنات العابرين؛ ليكتب نصوصًا أدبية مدهشة وهو قاعد على الرصيف. تلك القصاصات المحتوية على نصوص شعرية وسردية كانت السلوى له، والسعادة التي يحاول جلبها لنفسه. والأجمل عندما يجد من يستلمها دون تأفف؛ والسبب أن غالبية المارة لا يأبهون بما يكتب، ولا يهمهم ذلك، ولم تستوقفهم تلك الإبداعات التي ينثرها كالورود الزاهية عدا صحفية واحدة، تسمى "شالا"، حرصت على أن تنشر قصة بؤسه وفقره وبعض نصوصه الشعرية على مواقع التواصل؛ لتنال إعجاب الكثيرين؛ فشكلت منعطفًا مهمًّا في حياته؛ لينتقل من حياة التشرد والفقر والأمراض والانطواء إلى كاتب محترف بعد أن تبنت دار نشر شهيرة جمع ونشر كتاباته في محتوى واحد مقابل مبلغ مادي مُجزٍ؛ ليواصل كتاباته الأدبية في مناخ هادئ. هنا ندرك أن الفقر مهلكة بل مقبرة لكثير من المبدعين، وأن الإنسانية ‏العظيمة إذا تجلت في شخص ما تصبح نافذة نحو الجمال والبهاء.. فها هي شالا قدمت عملاً بسيطًا، يتمثل في نشر نصوص شعرية للكاتب العجوز ذاته، مع سرد موجز لقصة حياته؛ لتصل عن طريق الشبكة العنكبوتية إلى المجتمع الأوسع والمحيط الأكبر، وتنهال عبارات الثناء والإعجاب على الأديب، وأيضًا على شالا التي فاضت إنسانية.

نستطيع القول إن أي فرد منا يستطيع أن يقوم بمثل هذا العمل متى امتلأ إنسانية.. ولربما هناك أشخاص مثل هذا البائس يعيشون بيننا، ولم يدُرْ في بالنا مساعدتهم ولو بالقليل.

السؤال الأهم: هل مناهجنا الدراسية اهتمت بترسيخ مثل هذه المهارة؟ أم أنها مزروعة في قلوب البعض، ومفقودة لدى آخرين؟

لكِ التقدير يا وسائل التواصل متى ما أحسنا استخدامك؛ فأنت بريئة مما تلوثه بعض الأصابع صباح مساء بكتابات تأنف النفس من قبولها.. إنها التربية.. نعم التربية الصالحة.

وفي المقابل نشرت عندنا وسائل التواصل مقاطع للعم "ابن كرمان"، وهو عجوز يعيش في الساحل التهامي، وكان المصورون لتلك المقاطع يسعون إلى رفع أرصدتهم الرقمية في السناب.. ليأتي أحدهم متزعمًا العناية به، وهو في الواقع يسير في السياق ذاته بهدف استخدام المقاطع التي يصورها لـ"ابن كرمان" لصالحه، بل يخطط لما هو أبعد بإنشاء قناة لهما.

لا شك في أن الوضع يختلف تمامًا بين شالا التي قدمت خدمة إنسانية، انتزعت هذا الأديب من العزلة بتعريف الناس بنتاجه الإبداعي، وهؤلاء الذين يصورون مقاطع لرجل بسيط وأصيل، يتحدث بعبارات ذاعت في الأوساط الشبابية.

أخبار قد تعجبك

No stories found.
صحيفة سبق الالكترونية
sabq.org