الإبهار السعودي في المونديال

أبهر المنتخب السعودي المتابعين خلال بطولة كأس العالم التي تُقام حاليًا في قطر بأدائه الرجولي الحماسي، وغيرة لاعبيه على الشعار الذي يرتدونه، ورغبتهم الجارفة في إسعاد جماهيرهم، وتشريف بلادهم؛ فكان لهم ما أرادوا خلال المباراة الأولى التي تفوَّقوا خلالها على المنتخب الأرجنتيني الذي يعدُّ المرشح الأول للفوز بلقب البطولة، ولقنوا أبطال التانجو -كما يحلو لعشاقهم مناداتهم- دروسًا في فن الكرة الحديثة، وتوَّجوا أداءهم الرائع بفوز تاريخي، تناولته جميع وسائل الإعلام العالمية التي أشادت بأداء السعوديين، كما امتدحهم أيقونة كرة القدم العالمية وقائد الأرجنتين ليونيل ميسي، الذي قال بالحرف الواحد إنهم لعبوا ضد "مجموعة متجانسة من المحاربين".

ورغم أن نتيجة المباراة الثانية التي خسرها الأخضر السعودي أمام بولندا بهدفين دون مقابل أشاعت جوًّا من الحزن في أوساط المشجعين إلا أنها حال كرة القدم التي كثيرًا ما تأتي نتائجها عكس سير المباريات، لكن الأمل متوافر وموجود في النفوس، ولاسيما أن منتخبنا البطل سيلاقي المكسيك في ختام مباريات الدور الأول، وبإذن الله نكتب التاريخ، ونتأهل لأدوار أبعد في هذه البطولة العالمية.

وبعيدًا عن حسابات التأهل أشير إلى أن مَن يظن كرة القدم مجرد مباريات تنافسية، تُحسب بحسابات الربح والخسارة، هو مخطئ تمامًا؛ لأن كرة القدم باتت أهم أدوات الدبلوماسية الشعبية، وأبرز وسائل القوة الناعمة الأكثر تأثيرًا على مستوى الرأي العام.. فإن كان متابعو البطولة قد انبهروا بأداء منتخبنا -وهذه حقيقة- فإنهم أيضًا كانوا أشد انبهارًا بمنظر الجماهير السعودية التي ساندت لاعبيها في المدرجات.

كانت تلك الحشود حديث المتابعين من حيث الانضباط والتشجيع المتواصل، وحرصها على تنظيف أماكنها في الاستادات بصورة لفتت أنظار بقية المشجعين الذين أثنوا على هذا السلوك الحضاري المتقدم.. كما كانت ودودة وبشوشة مع مشجعي بقية المنتخبات المشاركة، وقدمت بذلك صورة راقية عن وطنها وشعبها.

وخارج الملعب كانت تلك الجماهير تتجمع عند "البيت السعودي"، الذي أُقيم على كورنيش الدوحة، ويفتح أبوابه يوميًّا من الساعة الـ12 ظُهرًا إلى الـ12 بعد منتصف الليل، حيث يستمتع الزوار بتجربة لعب كرة القدم مع كبار اللاعبين افتراضيًّا، كما توجد المأكولات السعودية التي تُقدَّم للضيوف مع القهوة المتميزة. وهناك مسرح ضخم داخل البيت، يُحيي فيه جملة من الفنانين السعوديين حفلات غنائية، تستمر منذ افتتاح البطولة حتى اختتامها، إضافة إلى العديد من الفعاليات الفنية ذات الطابع الثقافي، مثل التعريف بالفلكلور السعودي.

وكما بذل اللاعبون الجهد في المباريات، وحققوا مكاسب عديدة، فإن مشجعيهم وجماهيرهم بذلوا جهودًا مماثلة خارج الملعب، وأفلحوا في كسب العقول والقلوب، ولفتوا الأنظار بحبهم الشديد لشعار بلادهم، وبشاشتهم، وترحيبهم بالمشجعين من دول العالم كافة.

لذلك فإن ما تحقق خلال أيام المونديال يمثل حملة إعلامية هائلة، ما كنا نستطيع تنفيذها بالوسائل التقليدية، ولو أنفقنا عليها مئات الملايين من الدولارات؛ لأنها جاءت عفوية، ولامست الوجدان الشعبي العام بصورة مباشرة، وخاطبت الشريحة المستهدفة بدون وسيط.

وكما نعلم جميعًا، فإن أعدادًا كبيرة من الغربيين لا تعرف عن المجتمعات العربية إلا الصورة المزيفة التي تحاول بعض وسائل الإعلام وصناع السينما العالمية تكريسها بأن المواطن العربي جشع، أو متخلف، أو إرهابي، وغير ذلك من الافتراءات. الآن يمكننا كعرب ومسلمين تصحيح تلك الصورة، وتقديمها للآخرين على حقيقتها، والتعبير عن أنفسنا بحرية، وتبيان ما قدمناه من إسهام حضاري وثقافي للإنسانية خلال القرون الماضية، وقدرتنا على الانفتاح والتعامل الإيجابي مع العالم أجمع.

وقد أفلحنا حتى الآن في ذلك بدرجة امتياز من خلال الخدمات التي قدمتها الدولة المستضيفة للفعاليات، والتسهيلات التي وفَّرتها السعودية للمشجعين لدخول أراضيها بهدف السياحة والزيارة.

بقي القول إن الإبداع الذي رأيناه في المستطيل الأخضر هو ثمرة جهود مشتركة، أسهمت فيها الكثير من الجهات، لكني أخص بالإشادة اللفتة البارعة لسمو ولي العهد الأمير محمد بن سلمان -حفظه الله- الذي جعل "الشغف" أساسًا في كل أعمالنا، وحرص على استقبال نجوم الأخضر قبل بداية التصفيات، وأكد لهم أن المطلوب منهم هو أن يُحسنوا تمثيل بلادهم، بغض النظر عن نتائج المباريات؛ وبذلك حررهم من الضغط العصبي والشد الذهني، وحوَّلهم إلى أسود داخل الميدان.

مع كل الأمنيات للأخضر بالتوفيق، والصعود إلى أدوار متقدمة، هو أهلٌ لها، وجدير بها.

Related Stories

No stories found.
صحيفة سبق الالكترونية
sabq.org