التبرُّع بالأعضاء.. بارقة أمل للمحرومين

رغم أن السعودية تشهد في الوقت الحالي تطوُّرات إيجابية كثيرة، سواء على مستوى الانفتاح الذي يشهده مجتمعها، أو النهضة الاقتصادية المتواصلة التي تحققها على هدي رؤية السعودية 2030، أو الطفرة التشريعية الهائلة التي تهدف لاستكمال المنظومة القانونية، بما يتوافق مع انضمام السعودية للعديد من المعاهدات والمواثيق الدولية، وتعزيز حقوق الإنسان، إلا أن أبرز ما طغى على مشهدنا المحلي خلال الفترة الأخيرة، حسب وجهات نظر كثيرين، هو التغيُّر الكبير في المفاهيم، الذي تبدو أكبر تجلياته في تزايد حالات التبرع بالأعضاء من أشخاص متوفين دماغيًّا بعد موافقتهم خلال حياتهم؛ وهو ما أسهم في إنقاذ حياة عدد كبير من المرضى الذين كانوا في حاجة إلى إجراء عمليات لزراعة كلى أو قلب أو كبد.. وغير ذلك؛ وبالتالي اكتمل شفاؤهم بعد معاناة استمرت سنوات طويلة، تحمَّلوا فيها صنوفًا من الآلام واليأس وعذاب الانتظار.

خلال الأسابيع الماضية تحدثت وسائل الإعلام عن إجراء عمليات جراحية في مكة المكرمة ونجران وسكاكا الجوف؛ لنقل أعضاء من ثلاثة أشخاص متوفين دماغيًّا، وزراعتها لدى 14 شخصًا، كانوا في أمسِّ الحاجة لها؛ فعاد لهم الأمل في ممارسة حياتهم بصورة طبيعية بعد أن اسودت الدنيا أمامهم، وظنوا أن ذلك حلمٌ بعيد المنال.

ومع أن مجلس الشورى أجاز قانون التبرع بالأعضاء في 2019 إلا أن إقرار مجلس الوزراء القانون في إبريل الماضي فتح صفحة مشرقة، وكتب بداية عهد جديد من الإيثار وعمل الخير.

وكانت اللفتة البارعة من مقام خادم الحرمين الشريفين الملك سلمان بن عبدالعزيز وولي عهده الأمير محمد بن سلمان –حفظهما الله– عندما سارعا بتسجيل اسمَيْهما في برنامج المركز السعودي للتبرع بالأعضاء؛ وهو ما سلط الأضواء بشكل قوي على القانون، وجعله مثارًا للنقاش.

ولأن أبناء هذه البلاد اعتادوا أن يقتفوا أثر قادتهم، ويتخذوهم قدوة طيبة لهم، فقد سارع عشرات الآلاف من المسؤولين والشباب وعامة الشعب إلى تسجيل أسمائهم في البرنامج، وبلغت شدة الإقبال وكثافته أن برنامج (توكلنا) عجز عن استيعاب هذه الأعداد الهائلة، حتى تدخلت الجهات المختصة، وأعادت تشغيل التطبيق.

ونظرة سريعة لهذه المبادرة توضح بجلاء مقدار الخيرية التي يتمتع بها مجتمعنا -ولله الحمد-، كما تكشف بجلاء مقدار التغير الإيجابي الكبير في المفاهيم؛ فالمتوفى قطعًا لن يستفيد من أعضاء جسده بعد وفاته، ولن يكون بحاجة إليها، لكنها يمكن أن تنقذ أرواح العديد من المرضى الذين لم يستطيعوا إيجاد متبرع يعيد إليهم نضارة الحياة والقدرة على العيش، ويوقف معاناتهم المستمرة من آلام الفشل الكلوي وتليف الكبد واعتلال القلب وفقدان البصر.. وغير ذلك من الأمراض المزمنة.

ولأنه ربما لا يزال هناك بيننا مَن يتوجس من فكرة التبرع بالأعضاء بحسبان أنها جديدة علينا، والإنسان بطبعه يخاف مما لم يعتَدْ عليه، فإن هناك ضرورة لتدشين حملة إعلامية مكثفة، تشارك فيها كل الجهات ذات الصلة، بدءًا من أئمة المساجد والخطباء والدعاة، ومرورًا بالمؤثرين على شبكات التواصل الاجتماعي وقادة الفكر والمثقفين ووسائل الإعلام حتى المعلمين في المدارس وأساتذة الجامعات؛ وذلك لإيضاح الجوانب الإيجابية للتبرع بالأعضاء، وتأكيد أنه يتوافق مع تعاليم ديننا، وينسجم مع قيمنا وعاداتنا التي في مقدمتها المروءة والشهامة وحب الخير.

وأختمُ بالقول: إن قوائم الانتظار في المستشفيات، حسبما تؤكد الإحصائيات، طويلة جدًّا، وهناك آلاف من الشباب والأطفال الذين هم في أمسِّ الحاجة لمن يمد إليهم يد المساعدة، ويعيد إليهم الأمل، ويضع حدًّا لمعاناتهم.. والتبرع بالأعضاء يمثل حلاً نموذجيًّا، يعود عليهم بالنفع، ويُدخل المتبرعين ضمن مَن قال فيهم سبحانه وتعالى {... وَمَنْ أَحْيَاهَا فَكَأَنَّمَا أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعًا...}.

أخبار قد تعجبك

No stories found.
صحيفة سبق الالكترونية
sabq.org