أكرَموه حيًّا وقبل الموت قاعد

زاوية حديث الأطباء للدكتور حسن الخضيري
زاوية حديث الأطباء للدكتور حسن الخضيري

حسن تلميذ مجتهد أنهى دراسته الثانوية ثم دخل الطب حبًّا للمهنة وحلمًا منذ الصغر. تخرج بتفوق وتم ابتعاثه ليواصل الإبداع والتفوق، وعاد محملًا بالشهادات والأوسمة، لا يرجو من المجتمع والأحبة شكرًا ولا ثوابًا.

عمل بشغف وتفانٍ، وكافح ليكون التميزُ شعارَه، وسلامة المريض ديدنه، وعُلُوّ كعب الطب والعلاج هدفه.. لم يسعَ لتكريم يومًا؛ بل ظل بعيدًا عن الأضواء قدر المستطاع إلا فيما يخدم المريض والمنشأة الصحية والمجتمع.

شَغَل العديد من المناصب وأجاد فيها؛ بل أفنى عمره في الارتقاء بكل إدارة يتولى زمامها؛ حتى أصبحت مؤشرات الأداء في القمة، ويشهد بذلك القاصي قبل الداني (ليس كمؤشرات البعض الخضراء طول السنة)، وأصبح مرتادو المستشفى من كل بقاع البلد يبحثون عن طب مميز وأطباء متميزين.

بلغ "حسن" سن التقاعد، ولم يمدد له بحجة إتاحة الفرصة للدماء الشابة، والاعتماد على الجيل القادم، والأدهى والأمرّ أنه خرَج بصمت كما دخل للمستشفى أول مرة وحيدًا، ولم يصحبه في الخروج سوى دمعتين انحدرتا من مقلتيه على خديه أسفًا على الفراق، وحزنًا على أنه لن يُمَكَّنَ من خدمة المريض برغم قدرته الجسدية والعقلية التي ربما تضاهي مَن هم في الثلاثين من العمر.

قضى بقية العمر في تربية بقية الأولاد والأحفاد، ومحاولة تعويضهم عن الكثير من التقصير عندما كان مشغولًا بالمرض والمرضى. وفي يوم عيد ميلاده الواحد والسبعين انتقل إلى رحمة الله في راحة وسلام.

دق ناقوسُ موته ذاكرة المسؤولين من زملائه، والضمير ممن تتلمذوا على يديه وبعض من كان له الفضل عليهم أثناء مشواره العلمي والعملي؛ فقرروا تكريمه وإقامة مهرجان لبضعة أيام في كافة أنحاء البلد للتعريف بالدكتور "حسن" وإنجازاته وفضله على الطب وأهله في البلد.

في اليوم التالي كان الهاشتاق قد وصل لترند، نشرات الأخبار أفردت تقارير مفصلة عن سيرته ومسيرته الطبية، الفيسبوك مليء بالتعازي، والمجالسُ أصبح شغلها الشاغل؛ حتى من أدمن الحديث عنه بسوء انقلب بين عشية وضحاها إلى كيل المديح وعد السجايا والإنجازات لهذا الدكتور العظيم رحمه الله.

لا أدري لماذا تهب فينا الحمية وتقودنا الكرامة ويعذبنا الضمير ونشعر بعقدة التقصير في حق مَن قدموا الشيء الكثير للبلد والمجتمع بعد فوات الأوان؟! لماذا تهب فينا نخوة التكريم بعد أن يرحلوا؟ لماذا نحاول أن نوفيهم ولو شيئًا يسيرًا بعد مغادرتهم كرسي العمل وبعد أن نسيهم الجميع بل ربما أصبحوا في تعداد الموتى؟

نحن أمة تتصف بالوفاء وتفتخر بالكرم والجود؛ فلماذا نبخل على من أبدع في خدمتها بلمسة وفاء، وتكريم من أعطى وبذل الغالي والنفيس من أجل الدولة والمجتمع والمريض؟

لماذا ننتظر موتهم لتهب فينا النخوة والمروءة ونسارع لإقامة الندوات والاحتفالات ويتم توزيع الدروع والميداليات وقد كُتب في آخر كل جملة "رحمه الله"؟ وندعو الجميع ويحضر القاصي والداني إلا المحتفى به؛ لأن ما نفعله تأبينٌ له لا تكريمٌ في وقت لا يحتاجه، وكل ما نجود به دعوة من بخلاء لأزمنة عديدة علّها تجد استجابة من رب عالم بالنوايا وما تخفي الصدور.

قال أحد الكتّاب: "نحن نُجَوّع الرموز والكتاب والشعراء حتى نقتلهم جوعًا وغبنًا، ثم نحتفي بهم بعد موتهم ونضع صورهم على العملات، ونسمي الشوارع بأسمائهم، ونقيم المهرجانات التي تصرف عليها الملايين وتستفيد منها فئة معينة".

وهناك مقولة شهيرة لأحد المفكرين: "مات جاري أمس من الجوع، وفي عزائه ذبحوا كل الخراف".

قبل أشهر قليلة من وفاته تم تكريم الشاعر الفلسطيني الكبير محمود درويش من خلال إطلاق اسمه على أهم الساحات في مدينة "رام الله"؛ حينها تَحَدّث الراحل الكبير عن هذا التكريم قائلًا: "ليس من المألوف أن يُكَرّم الأحياء؛ فالموتى لا يحضرون حفل تأبينهم، وما استمعت إليه اليوم هو أفضل تأبين أود أن أسمعه فيما بعد"، وقبله كتب جمال الدين الأفغاني يقول في ذلك: "الأديب في الشرق يموت حيًّا ويحيى ميتًا".

ألم يَحِنْ الوقت للالتفات لمن بقي على قيد الحياة ممن كان لهم فضل -بعد الله- في المجال الصحي، وتكريمهم بما يستحقون قبل موتهم، وليس شرطًا أن يكون التكريم بالدروع والهدايا، يمكن تكريمهم بالمعاملة الحسنة عند مرضهم، وإعطاؤهم الأولوية عند الحاجة للعلاج؛ شريطة ألا يضر الآخرين (أعرف الكثير ممن ترك العمل وهو مدير كبير والآن عند القدوم للطوارئ لا يجد مَن يرحم كبر سنة وماضيه؛ بل البعض يجدها فرصة لتصفية حسابات لا أساس لها من الصحة)!.

أخبار قد تعجبك

No stories found.
صحيفة سبق الالكترونية
sabq.org