حالة من النفاق السياسي تعيشها كندا في الآونة الأخيرة، فالبلد الغربي الذي يقع في أقصى شمال الكرة الأرضية، يتشدق في خطابه الرسمي الخارجي بحرية الرأي والتعبير، وكف الأيدي عن اعتقال المتظاهرين السلميين، إلا أن الأمر داخليًا مختلف كليًا، فالهراوة الكندية تعمل في أجساد المدنيين العُزل بلا هوادة، والأصفاد تغل أيدي وألسن المطالبين بحرية التعبير، ومصادرة الآراء، وذلك كما شاهدنا في المظاهرات الأخيرة التي عمت أرجاء أتاوا.
أكثر من 191 معتقلاً حصيلة الشرطة الكندية، التي لم تظهر الرحمة للمدنيين "المسالمين" الذين تظاهروا بشاحناتهم في العاصمة الكندية معبرين عن رفضهم لسياسات وإجراءات الحكومة الكندية تجاه وباء "كوفيد-19"، ومن ثم عبّروا عن استيائهم البالغ من سياسات رئيس الوزراء الكندي جاستن ترودو بشكل عام، لتتوسع حركة الاحتجاج وتنتقل من مدينة إلى أخرى، فكان الرد عليهم بتفعيل قانون حالة الطوارئ الذي يطلق يد الحكومة بحرية لاعتقال المدنيين وتوجيه الاتهامات الجنائية لهم، وهي حيلة من الحكومة لتجريم التظاهر السلمي.
وتُعد تلك المرة الثانية في تاريخ كندا التي يفعل فيها قانون الطوارئ في زمن السلم، وكان بطل المرة الأولى رئيس الوزراء الأسبق بيار إليوت ترودو والد رئيس الوزراء الحالي إبّان أزمة أكتوبر 1970 حينما استخدم سلطاته لتفعيل الطوارئ، بعد أن خطفت "جبهة تحرير كيبيك" الملحق التجاري البريطاني جيمس ريتشارد كروس، ووزيرًا من كيبيك يُدعى بيار لابورت.
مستوى خطير من مصادرة الرأي
تهديد صريح أطلقه رئيس الشرطة في العاصمة أتاوا بالملاحقة الجنائية للمتظاهرين في حال عودتهم للتظاهر من جديد، وذلك بعد أن استطاعت السلطات الكندية وأد المظاهرات السلمية، باعتقال اثنين من قادة الحركة الاحتجاجية هما تامارا لينش، وكريس باربر، وعلى الرغم من وعد المتظاهرين بالعودة مرة أخرى للاحتجاج ومناهضة سياسات "ترودو"، إلا أن تهديد السلطات لهم سيضعونه نصب أعينهم قبل التفكير مرة أخرى في التعبير عن رأيهم.
وعلى الرغم من أن الدستور الكندي يكفل حرية الرأي والتعبير والتظاهر السلمي، إلا أنه تحول إلى أوراق لا قيمة ولا وزن لها عندما اختبر بجدية، فغاب الدستور، وظهر قانون الطوارئ، وأصبح التلويح بالعقوبات والسجن للمتظاهرين السلميين هو الدستور الكندي الجديد.
ولا شك فقد أصابت مشاهد رجال الشرطة الكندية وهم يمتطون صهوة جوادهم ويعملون الهراوات والعصي في أجساد المدنيين العُزل، الكثيرين بالصدمة، فقد سقطت أقنعة الديمقراطية وحرية الرأي والتعبير سريعًا عندما تعلق الأمر بالاحتجاج ضد سياسات الحكومة، وتغير الخطاب الكندي الداخلي عن مثيله الخارجي، وأصبح تهديديًا ينذر بالسجن والغرامات، مستعملاً العنف والقمع، وغابت مصطلحات السلمية والعُزل وأصبح المتظاهرون إرهابيين ويقوضون مصالح الدولة واقتصادها!