"سَوْقُ الْمَعْلُوْمِ مَسَاقَ غَيْرِهِ" في القرآن.. حسنةٌ من حسنات الإمام السّكاكي.. هنا أدبٌ يستحقّ التأمل

في حلقة "سبق" الرمضانية "28" مع دكتور البلاغة والنقد "زيد الخريصي"
"سَوْقُ الْمَعْلُوْمِ مَسَاقَ غَيْرِهِ" في القرآن.. حسنةٌ من حسنات الإمام السّكاكي.. هنا أدبٌ يستحقّ التأمل

عندما يكون الحديث عن أدب النحاة والبلاغيين مع الله والقرآن الكريم؛ فإنه ماتع وذو شجون؛ حيث كانوا لا يجترئون على وضع أي اصطلاح فيه شوب استكبار واستخفاف بحقّ الله. ووثّق التاريخ واحدًا من أمثلة أدبهم، والمتعلّقة بامتعاضهم عن قول: "إن في القرآن تجاهل العارف"، بل كانوا يُعبِّرون عنه كما وضعه السكاكي، رحمه الله، إنه "سوق المعلوم مساق المجهول" أو "مساق غيره". وعلّق بقوله: "لا أحبّ تسميته بالتجاهل"؛ لأن التجاهل مستحيل في حقّ الله تعالى.

قبسات بلاغية

وخصّصت "سبق"، في الحلقة الرمضانية "الثامنة والعشرين" من "قبسات بلاغية"؛ الحديث عن بعض من بلاغة "سَوْقُ الْمَعْلُوم مسَاقَ المجهولِ" في القرآن، وتستضيف فيها وبشكلٍ يوميٍ طوال شهر رمضان المبارك، دكتور البلاغة والنقد "زيد بن فرج الخريصي".

خلافٌ وأدب

قال "الضيف المتخصص": يعد أسلوب "سَوْق الْمَعْلُوْمِ مَسَاْق غَيْرِهِ" من المحسنات البديعية المعنوية، والذي دار عليها خلاف في "المصطلح"؛ حيث كان اسم هذا الأسلوب ابتداءً "تجاهل العارف"، والذي سماه بهذا الاسم ابن المعتز، إلا أن السّكاكي كره هذا الاسم؛ لمجيء هذا اللون في القرآن الكريم تأدُّبًا مع الله تعالى، وسماه: "سَوْقَ الْمَعْلُوْمِ مَسَاْق غَيْرِهِ"، يقول محمد الأمين الشنقيطي: "ومعلومٌ أنه لا يجوز شيء من ذلك كله في القرآن لاستحالة التجاهل على الله تعالى، وقد فطِن السكَّاكي لهذا فَعَدل عن لفظ "التجاهل"، وسماه: سَوْقَ الْمَعْلُوْمِ مَسَاْق غَيْرِهِ، لنكتة؛ ليدخل فيه مواضع من القرآن، وعبارة الجمهور بلفظ "التجاهل""، وله أسماء أخرى؛ هي: إيراد الكلام في صورة الاستفهام لغاية، ومزج الشك باليقين، وسياق المعلوم مساق المجهول، ويعرفه أبو هلال العسكري بأنه: "إخراج ما يعرف صحّته مخرج ما يشكّ فيه؛ ليزيد بذلك تأكيدًا".

طريقته

وأضاف: لكل أسلوب من الأساليب البلاغية طريقته الخاصة التي يُعرف بها، ومن بينها "سَوْق الْمَعْلُوْمِ مَسَاْق غَيْرِهِ"، وطريقته هو: أن يسأل المتكلم عن شيء يعرفه ولا يجهله، ولكنه يُظهر للمخاطَب خلاف ذلك؛ لغرض من الأغراض، وتتنوع هذه الأغرض بتنوّع السياقات في القرآن الكريم.

آيات وشواهد

وعن الشواهد القرآنية قال الدكتور "الخريصي": منها قوله تعالى: "... وَإِنَّا أَوْ إِيَّاكُمْ لَعَلَىٰ هُدًى أَوْ فِي ضَلَالٍ مُّبِينٍ" "سبأ: 24"، يقول ابن جرير الطبري، رحمه الله: "قل يا محمد لهؤلاء المشركين بربهم الأوثان والأصنام: من يرزقكم من السماوات والأرض بإنـزاله الغيث عليكم منها حياة لحروثكم، وصلاح لمعايشكم، وتسخيره الشمس والقمر والنجوم لمنافعكم، ومنافع أقواتكم، والأرض بإخراجه منها أقواتكم وأقوات أنعامكم، وترك الخبر عن جواب القوم استغناء بدلالة الكلام عليه، ثم ذكره، وهو: فإن قالوا: لا ندري، فقل: الذي يرزقكم ذلك الله وإنَّا أو إياكم أيها القوم لعلى هدى أو في ضلال مبين، يقول: قل لهم: إنا لعلى هدى أو في ضلال، أو إنكم على ضلال أو هدى"، أفلا يعلم رسولنا الكريم، عليه الصلاة والسلام، أنه على هدى؟ بلى، هو يعلم ومتيقن من ذلك، ولكن هذا من باب سوق المعلوم مساق غيره؛ يقول الزركشي: "هو يعلم أنه على الهدى، وأنهم على الضلال، لكنه أخرج الكلام مخرج الشك؛ تقاضيًا ومسامحةً، ولا شك عنده ولا ارتياب".

وأتبع: ومن شواهده قوله تعالى: "فَإِن كُنتَ فِي شَكٍّ مِّمَّا أَنزَلْنَا إِلَيْكَ فَاسْأَلِ الَّذِينَ يَقْرَءُونَ الْكِتَابَ مِن قَبْلِكَ ۚ لَقَدْ جَاءَكَ الْحَقُّ مِن رَّبِّكَ فَلَا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُمْتَرِينَ" "يونس: 94"، وهل النبي، عليه الصلاة والسلام، مشكك لهذه الرسالة التي بُعث بها حتى يخاطب بهذا الخطاب من الله تعالى؟ حاشاه بأبي هو وأمي، ولكن جيء بهذا الخطاب الإلهي، من باب سوق المعلوم مساق غيره؛ قال الفراء: "علم الله تعالى أن رسول الله ﷺ‎ غير شاكّ، فقال له: "فَإِنْ كُنْتَ فِي شَكٍّ"، وهذا كما تقول لغلامك الذي لا تشك في ملكك إياه: إن كنت عبدي فأطعني، أو تقول لابنك: إن كنت ابني فبرّني"، وقال غيره: "إنّ الله علم أن الرسول ﷺ‎ لم يشكّ، ولكنّه أراد أن يأخذ الرسول بقوله لا أشك ولا أماري؛ إدامة للحجة على الشاكّين من قومه كما يقول لعيسى: "أَأَنْتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَأُمِّي إِلهَيْنِ مِنْ دُونِ اللَّهِ"، وهو يعلم أنه لم يقل ذلك، بدليل قوله: سُبْحانَكَ ما يَكُونُ لِي أَنْ أَقُولَ ما لَيْسَ لِي بِحَقٍّ إدامة للحجة على النصارى".

وختم الدكتور "الخريصي" الشواهد بقوله تعالى: "إِذْ قَالَ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ مَا هَٰذِهِ التَّمَاثِيلُ الَّتِي أَنتُمْ لَهَا عَاكِفُونَ" "الأنبياء: 52" هل إبراهيم، عليه السلام، لا يعلم بماهية هذه الأصنام؟ وهو الذي حطمها، ونصح أباه بترك عبادتها، وعبادة الله الواحد الديان، الذي له الملك لا شريك له، يقول الآلوسي عن سبب هذا السؤال: "والظاهر أنه قال له؛ أي: لأبيه ولقومه مجتمعين: "ما هذِهِ التَّماثِيلُ الَّتِي أَنْتُمْ لَها عاكِفُونَ"، أراد: ما هذه الأصنام؟ إلا أنه عبّر عنها بالتماثيل؛ تحقيرًا لشأنها؛ فإن التمثال الصورة المصنوعة مشبّهة بمخلوق من مخلوقات الله تعالى من مثلت الشيء بالشيء إذا شبهته به، وكانت على ما قيل صور رجال يعتقدون فيهم وقد انقرضوا، وقيل: كانت صور الكواكب صنعوها حسبما تخيلوا، وفي الإشارة إليها بما يشار به للقريب إشارة إلى التحقير، أيضًا، والسؤال عنها بما التي يطلب بها بيان الحقيقة أو شرح الاسم؛ من باب تجاهل العارف، كأنه لا يعرف أنها ماذا، وإلا فهو محيط بأن حقيقتها حجر أو نحوه، والعكوف الإقبال على الشيء وملازمته على سبيل التعظيم له، وقيل: اللزوم والاستمرار على الشيء لغرض من الأغراض، وهو على التفسيرين دون العبادة، ففي اختياره عليها إيماء إلى تفظيع شأن العبادة غاية التفظيع".

تنبيه وصواب

ونوّه "دكتور البلاغة والنقد"، قائلًا: بعض المفسّرين لا يجد غضاضة في تسمية هذا الأسلوب "تجاهل العارف"، ومنهم الآلوسيّ في الآية الفائتة، إلا أن الصواب ما ذهب إليه السكاكي، ومن ساروا خلفه.

أخبار قد تعجبك

No stories found.
صحيفة سبق الالكترونية
sabq.org