قوتنا الناعمة والإعلام (2)

قوتنا الناعمة والإعلام (2)
كانوا في الجاهلية يفاخرون إذا برز فيهم شاعر، ويزداد فخرهم إذا رأوه في عكاظ، يعلو منبراً يشدو فيه بقومه. وفي الإسلام كان حسان بن ثابت صوتاً إعلامياً، يقول له الرسول صلى الله عليه وسلم: "اهجهم وروح القدس يُؤيدك". لقد كان للإعلام شأن منذ القدم، وتطوَّر كل شيء، وجاء العصر الحديث بهالته الإعلامية، فهل تطور إعلامنا وواكب الأحداث؟ وهل نجحنا في استخدام قوتنا الناعمة، ونجونا من كيد الأعداء ومكر المفرقين؟ وهل حسب ذوو الوصاية الإعلامية حين يسمحون لهذا المقال ويحجبون ذاك أن العصر قد تغيَّر؟ وهل ملك ذوو التوجهات المتعارضة الأفق حين منعوا عبدالعزيز من هذه القناة وأمامه ألف قناة ترحب به؟ إن الإعلام كما جاء في الأمثال (شبّ عن الطوق)، وأصبح مارداً انطلق من قُمْقُمِه.
 
إن للمملكة رسالة حضارية مشرقة، ولها منهج فكري عريق الجذور، له قرابة ثلاثمائة سنة، وكثيراً ما يُشدد خادم الحرمين الشريفين الملك سلمان بن عبدالعزيز - حفظه الله - على هذا المنهج، وأنه منهج الدولة الإسلامية الأولى الذي نزل من السماء في المدينة المنورة على يد المصطفى - صلى الله عليه وسلم -: صفاء معتقد، ونقاء عبادة، ورفقٌ ولين {ولو كنت فظاً غليظ القلب لانفضوا من حولك}. وهذا المنهج الذي قامت عليه الدولة السعودية منذ تأسيسها ازداد قوةً وقبولاً في أرجاء الأرض، وسارت به الركبان؛ فانتشرت المراكز الإسلامية التي يرعاها السعوديون في العالم، وانداح السعوديون في أرض الله يعرضون ذاك المنهج الناعم، وصارت فتاوى علماء السعودية الكبار كالشيخ ابن حميد والشيخ ابن باز والشيخ ابن عثيمين - رحمهم الله - وأصوات أئمة الحرمين والقراء السعوديون في كل البيوت، وفي أجهزة البث العالمية.. ولكن كادت الشياطين، وتآمرت الأبالسة، وراعهم القبول لهذا المنهج الطري الخالد، فجاءت فجأة أحداث ١١ سبتمبر؛ لتُشوه تلك القوة الناعمة، ويصفوها بالخشنة المتوحشة، واتُهِمَت السعودية فوراً، وأبرزوا صور جوازات الجناة الذين احترقوا مع كل شيء، لكن العجب أن الجوازات كانت أقوى من الحديد ولم تحترق! وظهرت المؤامرة الكبرى على وطننا الغالي، ومنهجه الناعم النقي، فعابوا فوراً فكرنا المؤثر الناعم الجاذب للقلوب، ووسموا المناهج بالغلو والتطرف، وشمتوا بالعلماء والفكر، ورددوا الوهابية ليجعلوها سمة السعودية، ويُنَفروا منها المسلمين، وسخروا من رجال الحسبة، وشنوا عليهم الحملات المتتالية، وخدعوا بقوة إعلامهم وضعف إعلامنا الكثير من الناس في الداخل والخارج حتى صدق بعض المخدوعين تلك المزاعم؛ فهرولوا يرفعون الراية، ويعلنون البراءة من قوتنا الخالدة، ويشاركون في نقد الفكر والمناهج، ويصفون رجال الحسبة بأنهم جُفاة وقُساة، وأوسعوا شعيرة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر نقداً وتجريحاً، وهي التي تكرر تأكيدها في كتاب الله {الذين إن مكناهم في الأرض أقاموا الصلاة وآتوا الزكاة وأمروا بالمعروف ونهوا عن المنكر..}، واستخدموا المرأة وسيلة للتنكيد والتشويه، واتخذوا من بعض العادات عيباً ونقداً، وما عرفوا أن دين الله قد كرّم المرأة، وأعلى قدرها.. ففي القرآن سورة كاملة باسم النساء، ورفع الدين شأنها من أن تكون وسيلة للغرائز والتسويق؛ فجعل زينتها لزوجها، وليس لشاشة التلفاز، ولا قنوات الرقص والمجون.. وبلغت الحماقة أن ساعد في التشويه والتقبيح فريقٌ غلبه الهوى وزينة الدنيا؛ فانبرى يكيد لهذا وذاك، وحسبوا أن الخصوم يرضون بالتحلل من قيمنا ومنهجنا {ولن ترضى عنك اليهود ولا النصارى حتى تتبع ملتهم}، وهبَّ رجال أعمال سعوديون ينشدون المال والإعلانات التجارية؛ فأنشؤوا قنوات خاصة، همها جذب الجماهير والإعلانات؛ فشاركوا بغباء في الكيد والنيل من منهج السعودية الفكري وسمتها العقائدي ووقارها التاريخي، وهم يحسبون أنهم يحسنون صنعاً.. وبسبب الخور الإعلامي والانهزام الحضاري جاء فريق استخفه إعلام الهوى؛ فولجوا باب الفُرقة والشتات وتمزيق المجتمع وتقسيمه وتصنيف أبنائه.. فهذا إخواني، وذاك ليبرالي، والثالث جامي، والرابع سلفي.. وهكذا تفريق وتمزيق. وكأي مجتمع يظهر فيه أشرار وأخيار، وحق وباطل، فتركزت الأنظار، وحدقت العيون على بعض الأخطاء فكبروها وعظموها، وجعلوها صفة الأغلبية، وهي سمة الأقلية. ووسط هذا الخلل والخطل والكيد لقوتنا الطاهرة الرقيقة جاء الغلو والتكفير، ثم التفجير والتدمير، ومن هنا انتشى وطرب الصوت الإيراني وآخرون معه، يعلمهم الله، ليقرروا أننا أعراب جفاة، وقلوب غلاظ، ووهابيون قساة. إنها مؤامرة طُبِخَت بليل، وحِيكت بغلس، ولكن {يأبى الله إلا أن يُتمَّ نوره ولو كره الكافرون}، فجاءت عاصفة الحزم؛ لتعيد الهيبة والمهابة، وتبعث العزة والمنعة.
 
إن لدى السعودية قوة ناعمة تجذب القلوب، وبضاعة طاهرة تستهوي النفوس، لكن لئن أخفقنا في الامتحان والابتلاء فيما مضى فإن اليوم غير الأمس.. وإن الأمر يتطلب وضع استراتيجية كبرى لقوتنا الناعمة، تكون ذات محاور إعلامية وتعليمية ودعوية وتعريفية. ويقيني أن هذا ما سوف يكون بإذن الله.

أخبار قد تعجبك

No stories found.
صحيفة سبق الالكترونية
sabq.org