إليك يا أبتي .. من وحي ذكراك

إليك يا أبتي .. من وحي ذكراك
تم النشر في
أبتي!!أبعدك الردى عني بركن أرض صامتة مهيبة.. تبعدك في جوفها يومًا بعد يوم.. وفي أعماقي قصائد حزن يتشقق منه الحجر.. وآلام وأوجاع تتفتق من الإحساس بفقدك.. أبوح بها لذاتي وذاتي فقط في كل لحظة أتذكر صورتك التي تستقر في كل نظراتي.. وومضات خيالي.. ووجداني.. وهل بمقدوري أن ينساك طرفة عين؟
 
وفرقاك نار تشتعل وسط جوفي
ما للفرح عقبك مراسي وعنوان
 
أنا لا أجد في حروف اللغة ما أبدع به كلمة تفيك بعض حقك وتقديرك، فجميلك ومكانتك في قلبي أسمى من كل لغة، وأدق من كل إحساس، وأبلغ من كل تغريد, وأرحب من مساحة الكلام شعرًا ونثرًا.
 
وفي ثنايا صمتي ...قلب حزين يتألم..
 
 مع ذلك اكتب إليك بإحساس فياض من قلب طفل كنت وستظل بطله الدائم.. فلم أشعر يومًا بذاتي إلا طفلاً في حضرتك..ولن أكون إلا كذلك بكل أحاسيسي وعواطفي ووجداني في غيابك..فما أنا إلا ظل يستلهم من سيرك الخطى في مسير حياة.
 
أكتب لك مقالتي من وحي ذكريات طفل لم تفارق أحاسيسه حرارة كفيك ودفء صدرك حين تلامسه في كل لحظة احتضان..
 
كأنَّ أبي – بَعْدُ – لم يّذْهَبِ
وصحنُ الرمادِ .. وفنجانُهُ
على حالهِ.. بعدُ لم يُشْرَبِ
ونَظَّارتاهُ .. أيسلو الزُجاجُ
عُيُونًا أشفَّ من المغرب؟
 
أكتب لك من وحي ذكريات تفانيك في صناعتي، وحرصك الدائم على تقويمي وإصلاحي، وتقديمك الغالي والنفيس لأكون سرك في الحياة ..فلكم تعبت في ذلك وكم شقيت؟..وكم صبرت؟.. وكم عانيت؟..وكم كافحت؟.. وكم سعيت؟..لأكون شيئًا 
مذكورًا في قاموس إنجازاتك العظيمة في الحياة..وهل أنا إلا شيء يسير من  جميل كسبك وإبداعات نجاحك!
 
ومن أين سأبدأ ذكرياتي معك وهي بعدد أنفاسي في صحبتك؟!
 
ومن أين أبدؤها، وكلما هممت طغى الدمع فلا أكاد أبصر ما أكتب؟!
 
ذكريات إن كنت ولابد مجملها فأقول "كان خلقك الاحترام".
 
فما زلت أذكر يوم اعتدى أحد إخوتي على أحد العمال فأدبته وأنت  تشير إلى لوحة معلقة في (محلك) وتقول: ماذا  مكتوب هنا؟.. وكان المكتوب عليها : "إذا دعتك قدرتك على ظلم الناس فتذكر قدرة الله عليك".
 
من يومها حفظت الشعار وجعلته مبدئي في الحياة..
 
 تلك اللوحة يا أبتي..هي أجمل كنز تركته لي ولإخوتي..تمامًا ككنز اليتيمين في المدينة اللذين ترك أبوهما الصالح لوحًا مكتوب عليه حكم ونصائح مدفونًا تحت جدار... وسماه الله كنزًا في القرآن لعظم شأن الوصية بالحق!
 
((وَأَمَّا الْجِدَارُ فَكَانَ لِغُلَامَيْنِ يَتِيمَيْنِ فِي الْمَدِينَةِ وَكَانَ تَحْتَهُ كَنزٌ لَّهُمَا وَكَانَ أَبُوهُمَا صَالِحًا)).
 
وتنقلب أحزاني أفراحًا كلما تذكرت شهود الله في الأرض أولئك القوم الذين لا نعرف كثيرًا منهم وقد حضروا من أماكن شتى أيام العزاء ليرفعوا أصواتهم أمام الناس بشهادات تبكي فرحًا من جمال روعتها -ما زلت أحفظها كما قالوها: 
 
(هذا المتوفي من أنبل الناس وأوفاهم - رحمه الله - فقد كنا "جياع" فأطعمنا.. وكنا بلا مأوى عندما جئنا إلى الشرقية فأسكننا...).
 
ليهنك ما رأينا من شهودٍ *** بأرض الله كلهم ثناء
 
لقد كنت قريبًا جدًا من الناس الفقير قبل الغني .. لطيفًا مع الصغار والكبار حتى أحبك الجميع واحترموك بكل مللهم ومذاهبهم فلما سمعوا بنبأ وفاتك بكتك الأعين ، ودعت لك الألسن، وترحم عليك من عرفك ومن لم يعرفك 
 
أبي يا أبي .. إنَّ تاريخَ طيبٍ
وراءكَ يمشي، فلا تَعْتَبِ ..
على اسْمِكَ نمضي، فمن طّيِّبٍ
شهيِّ المجاني، إلى أطيبِ
 
وزادك الله شرفًا بثناء في يوم الجمعة من خطيب "جامع بن عثيمين" يسمعه المؤمنون شهود الله في الأرض.. فالحمد لله الذي جعل لك لسان صدق في الآخرين..فحتى وأنت في ركن الأرض البعيد تحت الثرى في مرقدك.. مازلت أستاذي وقدوتي أتعلم من دروسك..وعظمة أعمالك وأثرك في الحياة..ولكم تسليت وأنا أسمع بوحهم..وأتتلمذ في مدرستك الفريدة حتى بعد فقدك..فلله درك.
 
نعم أيها الجندي المجهول!! لقد قصوا علينا قصصك في صناعة المعروف (سرًا)..فكانت بردًا وسلامًا على نار فراقك في قلوبنا ..(فصدقة السر تطفئ غضب الرب) ..وموعود بالخير صاحبها لقوله تعالى:(فَأَمَّا مَنْ أَعْطَى وَاتَّقَى* وَصَدَّقَ 
بِالْحُسْنَى* فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْيُسْرَى)...وأشهد أنك أعطيت واتقيت وبالحسنى صدّقت.
 
ومن جميل ما تعلمته منك أيضًا صدق الوعد حين غرست في وجداني شعاره بقولك لي (يا صادق الوعد) كلما احترمت موعدًا معك..وفي كل مرة كنت أسمعها منك أفرح وأنشط للوفاء وأنتظر سماعها بشغف..
 
لله درك فقد كنت ذا تواضع في هيبة وابتسامة لا تفارق وجهك السمح، وبشاشة وعطف وحنان بلا حدود ليس معي أو في بيتنا فقط بل مع عامة الناس، من نعرف ومن لا نعرف.. نظرة ثاقبة وتفرس نوراني، ومداراة تجعل الصعب ذلولاً، والشديد لينًا، شديد الاحترام للضعفاء بشكل أخص، فقد كنت عندما تمشي على قدميك قبل أن يقعدك المرض على الكرسي المتحرك تصر على حضور صلاة الجماعة وفي الطريق لم تزل كعادتك تجالد في الوقوف للناس تسمع من هذا، وتجامل ذاك في الحديث وكنت أعلم يقينًا أنك تتألم من شدة الوقوف - فأحاول صرف الناس بالحسنى ولكنني كنت أفشل لإصرارك على الاحتمال والانبساط لهم ..وأنت تستمتع بذلك في ألم!!
 
لا تزال صورتك أمام ناظري حين لقيتني في باب المستشفى ومعك والدتي حفظها الله يوم تعرضت لحادث.. ودموعك ذارفة بعدما بذلت كل الجهد لنقلي للمستشفى القريب من مدينتنا.. لقد شفيت يومها تلك اللحظة برغم الألم.. فكانت دموعك الغالية الحانية دوائي وقوتي.
 
ومن صور حنانك الجميل، وصيتك لي بشقيقاتي ( الله الله أن تخذلهم أو تبخسهم حقوقهم أعطي كل ذي حقٍ حقه وعامل الجميع بالعدل).. وقد كنت أنت أحن عليهن، ومن شدة حبك لهن كن الأحب إليك.. ولعظم المصاب اليوم هن الأكثر حزنًا على 
فراقك من كل أحد.. لكنني على العهد والوعد فأنا لهن الأخ والأب وأنا لهن فداء.
 
  وما يسليني عن الحزن كلماتك الشافية لآلامي قبل شهرين من فقدك حين انفردت بك متعمدًا لأسألك بصوت خافت ليطمئن قلبي: يا أبتي هل أنت راضٍ عني؟..فأجبتني - بالحرف الواحد- بثقة وعلى محياك ابتسامتك المعهودة: كيف لا أرضى عليك يا إبراهيم.. أنت قلبي وعيوني!
 
فلا يزال رضاك بلسمًا لجراحي .. وملهمًا لنجاحي .. وسيظل ما حييت..
 
لحظة رحيلك كانت استثنائية هي الأخرى فقد كنت في حضرة والدتي الكريمة التي ظلت إلى جانبك بوفائها لآخر لحظة ماسكة بيديك.. كانت لحظة صامتة ينبئ صمتها الرهيب عن ساعة الفراق المحتوم.
 
لكن لا أحد من الحضور شعر برحيلك وأنت موسد كنائم... وحدها والدتي أدركت أنك فارقت الحياة حين قبضت على يديها تشير إلى الوداع بصمت...من هذه الدنيا.. توادعتما بصمت جبار يغني عن كل كلام!!
 
لم يكن الأمر هينًا على قلبي الحزين لفراقك وأنا أوسدك بيدي في قبرك.. فلم يكن قبلها بمقدوري حتى تخيل موتك.. لكنني فعلت ذلك بجلد تمامًا كما أمرت ووصيت قبل شهور من رحيلك (أريدك أنت يا إبراهيم من يوسد رأسي بالتراب وينزل جنازتي داخل القبر).
 
 
ﻭﻫﻞ ﺃﺑﻜﻴﻚ ﺃﻡ ﺃﺷﺪﻭ ﺑﻔﺨـﺮ . . . ٍﻮﻛﻠﺘـﺎ ﺣﺎﻟﺘٌـﻲَّ ﻟﻬـﺎ ﺩﻟﻴـﻞُ
ﻓﻼ ﺷﺪﻭﻱ ﺍﺫﺍ ﺍﻗﺪﻣﺖُ ﻳﻜﻔـﻲ . . . ﻭﻻﺩﻭﻥ ﺍﻟﺮﺩﻯ ﺣﺰﻥٌ ﻳﺤـﻮﻝُ
ﻭﻣﺎ ﻧﻔﻊُ ﺍﻟﺒﻜـﺎﺀِ ﻭﻻ ﺍﻟﺘﺒﺎﻫـﻲ . . . إﺫﺍ ﻛﺎﻥ ﺍﻟﺮﺣﻴﻞُ ﻫﻮ ﺍﻟﺮﺣﻴـﻞُ
 
رحمك الله يا والدي..
إذا ذكرناك ذكرنا الصف الأول في المسجد..
إذا ذكرناك ذكرنا الأب الناصح الحنون..
إذا ذكرناك ذكرنا الكلمة الطيبة والابتسامة الدائمة..
إذا ذكرناك ذكرنا طيب أخلاقك وطيب ممشاك وحبك للناس..
 
غفر الله لك يا والدي وتجاوز عنك .. وتغمدك بواسع رحمته .. وجزاك الله عني وعن والدتي وإخواني وأخواتي خير الجزاء يا من كُنت لنا بحق الأب الحنون .. والأخ الكريم .. والصديق الصدوق .. اسأل الله أن يدخلك الجنة بغير حساب ولا 
عقاب وأن يجعلك مع النبيين والصديقين والشهداء والصالحين.
 
عليك سلام الله ما اهتز شوقنا *** إليك، ورضوانٌ من الله أكبرُ
 
 

أخبار قد تعجبك

No stories found.
صحيفة سبق الالكترونية
sabq.org