اللويحق: الحد الأدنى للبيعة انعقادها بالقلب واستشعار لزومها

أستاذ الشريعة أعدّ بحثاً متكاملاً عن البيعة و"سبق" تنشر تفاصيله
اللويحق: الحد الأدنى للبيعة انعقادها بالقلب واستشعار لزومها
عبدالله البرقاوي-سبق-الرياض: أكد الدكتور عبدالرحمن معلا اللويحق الأستاذ المشارك بكلية الشريعة بجامعة الإمام محمد بن سعود والمعار إلى جامعه الأمير سلطان، أن البيعة العامة التي ستتم ابتداء من بعد صلاة العشاء اليوم الجمعة لخادم الحرمين الشريفين الملك سلمان بن عبدالعزيز،  لا يلزم لها الحضور والسلام, بل هي على مستويات, فمن حضر وسلم وبايع, فذلك أتم – خاصة من كان من رؤوس الناس, وعلمائهم ووجهائهم –ومن لم يحضر وبايع من كلفه ولي الأمر بقبول البيعة كأمراء المناطق والمحافظين ورؤساء المراكز فذلك حسن.
 
وإذا لم يفعل فإن الحد الأدنى الذي لا بد منه هو انعقاد البيعة بالقلب, واستشعار أن هذا العقد لازم, وهو في عنق الإنسان, فذلك ما يجب أن تنطوي عليه قلوب الناس كلهم في المملكة العربية السعودية.
 
فمن فعل هذا فهو الذي سلم من التحذير الوارد في قول رسول الله - صلى الله عليه وسلم –: "ومن مات وليس في عنقه بيعة مات ميتة جاهلية".
 
جاء ذلك في بحث أعدّه الدكتور اللويحق عن البيعة وتنشر "سبق" تفاصيله:
 
 
البيعة:
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله – صلى الله عليه وسلم – أما بعد:
أحسن الله عزاءنا وعزاء الأمة الإسلامية في خادم الحرمين الشريفين  الملك عبدالله بن عبدالعزيز تغمده الله بواسع رحمته وغفرانه وأسكنه فسيح جناته وجزاه الله عن الإسلام وعن هذه الأمة وعن المسلمين خير الجزاء فالخلق كلهم  صائرون الى هذا المصير كما قال الله عز وجل (إنك ميت وإنهم ميتون).
ومن كمال الشريعة وضعها للأحكام المنظمة لشأن الإمامة وولاية أمر المسلمين خاصة عند شغور هذا المنصب الأعلى في الدولة المسلمة .
وفي تاريخ الأمة منذ عهد رسول الله – صلى الله عليه وسلم – ما أن يموت رأس الدولة إلا ويسعى علماؤها وعقلاؤها وسراة الناس فيها إلى عقد البيعة لمن يخلفه ذلك أن أهل العلم اتفقوا على وجوب نصب الإمام, ولم يخالف في ذلك إلا بعض الخوارج وبعض المعتزلة, قال ابن حزم - رحمه الله -: (اتفق أهل السنة, وجميع المرجئة وجميع الشيعة, وجميع الخوارج على وجوب الإمامة, وأن الأمة واجب عليها الانقياد لإمام عادل يقيم فيهم أحكام الله, ويسوسهم بأحكام الشريعة التي أتى بها رسول الله – صلى الله عليه وسلم – حاشا النجدات من الخوارج).
ومستند هذا الإجماع الآيات الدالة على وجوب طاعة أولي الأمر, ووجوب الحكم بما أنزل الله تعالى, وكذلك الآيات التي جاء فيها الأمر بإقامة الحدود؛ إذ لا يتم هذا الواجب إلا بنصب الأئمة, كما استندوا على الأحاديث الدالة على ما ذكر والدالة كذلك على أن البيعة واجبة في عنق كل مسلم من مثل حديث عبد الله بن عمر -رضي الله عنهما- عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: "من مات وليس في عنقه بيعة مات ميتة جاهلية".
كما دل فعل الصحابة على أهمية نصب الخليفة, حيث تشاغلوا به عن دفن الرسول - صلى الله عليه وسلم - ولو لم يكن بهذه الأهمية, لما فعلوا ذلك.
قال الهيثمي - رحمه الله -: (اعلم أيضاً أن الصحابة –رضوان الله عليهم – أجمعوا على أن نصب الإمام بعد انقراض زمن النبوة واجب, بل جعلوه أهم الواجبات, حيث اشتغلوا به عن دفن الرسول– صلى الله عليه وسلم ).
وقيام أمور حياة الناس بشقيه: الديني, والدنيوي, معتمد على وجود الآمر الناهي المطاع المنظم لشؤون الأمة وأمورها.
قال ابن تيمية - رحمه الله -: (كل بني آدم لا تتم مصلحتهم لا في الدنيا ولا في الآخرة إلا بالاجتماع والتناصر, فالتعاون والتناصر على جلب منافعهم, والتناصر لدفع مضارهم, ولهذا يقال: الإنسان مدني بالطبع, فإذا اجتمعوا فلا بد لهم من أمور يفعلونها يجتلبون بها المصلحة, وأمور يجتنبوها لما فيها من المفسدة, ويكونون مطيعين للآمر بتلك المقاصد, وللناهي عن تلك المفاسد, فجميع بني آدم لا بد لهم من: طاعة آمر وناهٍ, فمن لم يكن من أهل الكتب الإلهية, ولا من أهل دين, فإنهم يطيعون ملوكهم فيما يرون أنه يعود بمصالح دنياهم مصيبين تارة, ومخطئين أخرى).
ومن كمال هذا الدين أنه ضبط هذه العلاقة بين الحاكم والمحكوم؛ لأن من شأن ضبط هذه العلاقة انضباط أمور الأمة, وسيرها في حياتها على السواء.
ومما يلفت النظر هنا أن ضبط هذه العلاقة جاء بأسلوب شرعي بديع هو: توجيه كل من الطرفين – الحاكم والمحكوم – إلى القيام بالمهام المنوطة به والواجبات الموكلة إليه بأسلوب قوي متين, فإذا نظرنا إلى النصوص الواردة في شأن الحاكم, وحقوق الرعية عليه, والواجبات المناطة به, ظننت أن الشرع مائل إلى جانب الرعية, وإذا نظرت إلى النصوص الواردة في شأن الرعية, وحقوق ولي الأمر عليهم من الطاعة والنصرة ظننت أن الشرع مائل إلى جانب الحاكم, والموقف كما هو واضح يتشكل من مجمل النظر إلى النصوص الواردة في ذلك.
قال محمد أنور الكشميري – رحمه الله – عند قوله – صلى الله عليه وسلم –   "من كره من أميره شيئاً فليصبر": (إن الشريعة في مثل تلك الأمور التي تنتظم من الطرفين ترد بمثله, أعني أنها توجه كلاً منهما إلى أداء وظيفته حتى يتراءى منه أنه ليس للآخر حق ...... ومن هذا الباب أمر الرعية والسلطان, أمرهم بالصبر؛ حتى يتخيل أن الحق كله عليهم, والوجه فيه قد ذكرناه بأنه قد سلك فيه مسالكاً يقوم به النظام, فأقام لكلٍّ باباً, فجعل من وظيفة الرعية الصبر, وجعل من وظيفة الإمام العدل مهما أمكن ثم وعد – كذا في الأصل, ولعل الصواب: توعد – كلاً بترك وظيفته).
بل إن الآية الواحدة ربما قصد بها الحاكم والرعية, كل يوجه إلى الحق الواجب عليه, قال ابن كثير – رحمه الله – في تفسير قول الله تعالى: (الذين إن مكناهم في الأرض أقاموا الصلاة) [الحج: 41]: (قال الصباح بن سودة: سمعت عمر بن عبدالعزيز يخطب, وهو يقول: ألا إنها ليست على الوالي وحده, ولكنها على الوالي والمولى عليه, ألا أنبئكم بما لكم على الوالي من ذلكم, وبما للوالي عليكم منه؟ إن لكم على الوالي من ذلكم أن يؤاخذكم بحقوق الله عليكم, وأن يأخذ لبعضكم من بعض, وأن يهديكم للتي هي أقوم ما استطاع.
وأن عليكم من ذلك الطاعة غير المبزوزة, ولا المستكره بها, ولا المخالف سرها علانيتها).
 
ولضبط هذه العلاقة بين الحاكم والمحكوم جاءت البيعة للحاكم, قال النووي    – رحمه الله -: (وتنعقد الإمامة بالبيعة, والأصح بيعة أهل الحل والعقد من العلماء والرؤساء ووجوه الناس الذين يتيسر اجتماعهم).
والبيعة عقد وعهد يطلق على المعاهدة على الإسلام, وعلى عهد البيعة.
قال الكرماني – رحمه الله -: (المبايعة على الإسلام عبارة عن المعاقدة والمعاهدة عليه, سميت بذلك تشبيها بالمعاوضة المالية, كأن كل واحد منهما يبيع ما عنده من صاحبه, فمن طرف رسول الله –صلى الله عليه وسلم – وعدُ الثواب, ومن طرفهم التزام الطاعة.
وقد تعرَّفُ: بأنها عقد الإمام والعهد بما يأمر به الناس).
وقد دلت النصوص على وجوب الوفاء بالبيعة, وحرمة نقيضها, ونكثها من ذلك:
1- قوله تعالى (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ أُحِلَّتْ لَكُمْ بَهِيمَةُ الأَنْعَامِ إِلاَّ مَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ غَيْرَ مُحِلِّي الصَّيْدِ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ إِنَّ اللَّهَ يَحْكُمُ مَا يُرِيدُ) [المائدة:1].
2- قوله تعالى (وَأَوْفُوا بِعَهْدِ اللَّهِ إِذَا عَاهَدْتُمْ وَلا تَنقُضُوا الأَيْمَانَ بَعْدَ تَوْكِيدِهَا وَقَدْ جَعَلْتُمْ اللَّهَ عَلَيْكُمْ كَفِيلاً إِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا تَفْعَلُونَ) [النحل:91].
3- قوله تعالى (وَأَوْفُوا بِالْعَهْدِ إِنَّ الْعَهْدَ كَانَ مَسْئُولاً) [الإسراء:34].
4- عن عبدالله بن عمر – رضي الله عنهما- قال سمعت رسول الله – صلى الله عليه وسلم – يقول: "من خلع يداً من طاعة, لقي الله يوم القيامة لا حجة له, ومن مات وليس في عنقه بيعة, مات ميتة جاهلية".
5- عن نافع مولى ابن عمر قال:(لما خلع أهل المدينة يزيد بن معاوية جمع ابن عمر حشمه وولده, فقال: إني سمعت رسول الله – صلى الله عليه وسلم – يقول: "ينصب لكل غادر لواء يوم القيامة" وإنا قد بايعنا هذا الرجل على بيع الله ورسوله, وإني لا أعلم غدراً أعظم من أن يبايع رجل على كتاب الله ورسوله, ثم ينصب له القتال, وإني لا أعلم أحداً منكم خلعه, ولا بايع في الأمر إلا كانت الفيصل بيني وبينه).
قال الحافظ ابن حجر - رحمه الله -: (وفي هذا الحديث وجوب طاعة الإمام الذي انعقدت له بيعة والمنع من الخروج عليه, ولو جار في حكمه, وأنه لا ينخلع بالفسق).
6- عن عبدالله بن عمرو بن العاص – رضي الله عنهما – أن النبي صلى الله عليه وسلم- قال: (من بايع إماماً فأعطاه صفقة يده وثمرة قلبه, فليطعه إن استطاع, فإن جاء آخر ينازعه, فاضربوا عنق الآخر).
7- عن ابن عباس - رضي الله عنهما- عن النبي - صلى الله عليه وسلم- قال: "من رأى من أميره شيئاً يكرهه, فليصبر عليه, فإنه من فارق الجماعة شبراً, فمات إلا مات ميتة جاهلية".
قال ابن أبي جمرة – رحمه الله -: (المراد بالمفارقة: السعي إلى حل عقد البيعة التي حصلت لذلك الأمير).
8- عن أبي ذر- رضي الله عنه- قال: قال رسول الله- صلى الله عليه وسلم-: "من فارق الجماعة قيد شبر, فقد خلع ربقة الإسلام من  عنقه".
ولعظم الوفاء بالبيعة جاءت النصوص دالة على أنها لا تنعقد ابتداء إلا من وجوه الناس وأهل الحل والعقد.
قال عمر بن الخطاب - رضي الله عنه -: قبل وفاته لأهل الشورى: (أمهلوا, فإن حدث بي حدث, فليصل بالناس صهيب مولى بني جدعان ثلاث ليالٍ, ثم اجمعوا في اليوم الثالث أشراف الناس, وأمراء الأجناد, فأمروا أحدكم, فمن تأمر من غير مشورة, اضربوا عنقه).
وعلى ذلك جرى الأمر في بلادنا – بحمد الله – فبعد وفاة خادم الحرمين الشريفين الملك عبدالله بن عبدالعزيز آل سعود – رحمه الله – تلقى صاحب السمو الملكي ولي العهد الأمير سلمان بن عبدالعزيز آل سعود البيعة ملكاً على البلاد وفق النظام الأساسي للحكم. 
وبعد إتمام البيعة، وبناءً على البند (ثانياً) من الأمر الملكي رقم أ / 86 وتاريخ 26 / 5 / 1435هـ، الذي نص على أن يبايع صاحب السمو الملكي الأمير مقرن بن عبدالعزيز آل سعود ولياً للعهد في حال خلو ولاية العهد، دعا خادم الحرمين الشريفين الملك سلمان بن عبدالعزيز ملك المملكة العربية السعودية - يحفظه الله - لمبايعة صاحب السمو الملكي الأمير مقرن بن عبدالعزيز ولياً للعهد، وقد تلقى سموه البيعة على ذلك.
كما صدر الأمر الملكي رقم أ / 52 وتاريخ 3 / 4 / 1436هـ المتضمن اختيار صاحب السمو الملكي الأمير محـمد بن نايف بن عبدالعزيز آل سعود ولياً لولي العهد ودعا خادم الحرمين الشريفين الملك سلمان بن عبدالعزيز آل سعود - يحفظه الله - لمبايعة سموه ولياً لولي العهد وذلك خلال البيعة لمقام خادم الحرمين الشريفين وسمو ولي عهده - يحفظهما الله - بقصر الحكم في الرياض بعد صلاة عشاء هذا اليوم الجمعة 3 / 4 / 1436هـ بمشيئة الله تعالى.
تلقى صاحب السمو الملكي ولي العهد الأمير سلمان بن عبدالعزيز آل سعود البيعة ملكاً على البلاد وفق النظام الأساسي للحكم. وبعد إتمام البيعة، وبناءً على البند (ثانياً) من الأمر الملكي رقم أ / 86 وتاريخ 26 / 5 / 1435هـ، الذي نص على أن يبايع صاحب السمو الملكي الأمير مقرن بن عبدالعزيز آل سعود ولياً للعهد في حال خلو ولاية العهد، دعا خادم الحرمين الشريفين الملك سلمان بن عبدالعزيز ملك المملكة العربية السعودية - يحفظه الله - لمبايعة صاحب السمو الملكي الأمير مقرن بن عبدالعزيز ولياً للعهد.
  وقد تلقى سموه البيعة على ذلك.
وهذه البيعة التي تمت هي بيعة انعقاد, والملك: سلمان, ملك منذ تلك البيعة  وتتلو تلك البيعة, البيعة العامة التي ستتم ابتداء من بعد صلاة العشاء يوم الجمعة وهذه البيعة لا يلزم لها الحضور والسلام, بل هي على مستويات, فمن حضر وسلم وبايع, فذلك أتم – خاصة من كان من رؤوس الناس, وعلمائهم ووجهائهم –ومن لم يحضر وبايع من كلفه ولي الأمر بقبول البيعة كأمراء المناطق والمحافظين ورؤساء المراكز فذلك حسن.
وإذا لم يفعل فإن الحد الأدنى الذي لا بد منه هو انعقاد البيعة بالقلب, واستشعار أن هذا العقد لازم, وهو في عنق الإنسان, فذلك ما يجب أن تنطوي عليه قلوب الناس كلهم في المملكة العربية السعودية.
فمن فعل هذا فهو الذي سلم من التحذير الوارد في قول رسول الله - صلى الله عليه وسلم –: "ومن مات وليس في عنقه بيعة مات ميتة جاهلية".
 
ومما يدل على عظم البيعة, ما جعله الشارع من توحيد للمعقود عليه, بحيث لا تنعقد البيعة لأكثر من واحد, يدل على ذلك:
1- عن أبي سعيد الخدري - رضي الله عنه – أن رسول الله- صلى الله عليه وسلم – قال: "إذا بويع لخليفتين, فاقتلوا الأخير منهما".
2- عن أبي هريرة - رضي الله عنه – أن رسول الله- صلى الله عليه وسلم – قال: "كانت بنو إسرائيل تسوسهم الأنبياء, كلما هلك نبي خلفه نبي, وإنه لا نبي بعدي, وستكون خلفاء, فتكثر "قالوا: فما تأمرنا؟ قال: "فوا ببيعة الأول فالأول, وأعطوهم حقهم, فإن الله سائلهم عما استرعاهم".
وإذا انضبطت علاقة البيعة بين الحاكم والمحكوم, وعلم الحاكم أنه مسؤول أمام الله – عز وجل – عن العهد الذي أعطاه لرعيته, وعلم المحكوم أنه مسؤول أمام الله – عز وجل – عن العهد الذي أعطاه لإمامه وحاكمه, أمكن علاج كثير من المشاكل الناتجة عن انفصام هذا العهد والعقد, من مثل مسألة الخروج على الحاكم  وإثارة الناس عليه, فهذا الأمر ناتج عن اعتقاد الخارج أن لا بيعة له.
 
وينشئ هذا العقد جملة من الحقوق والواجبات المتبادلة بين الحاكم والمحكوم. ولمزيد من التوضيح أورد جملة من حقوق الإمام التي هي واجبات على الرعية, وجملة أخرى من واجبات الإمام والتي هي حقوق للرعية.
حقوق الإمام (واجبات الرعية): من أهم تلك الحقوق:
أولاً: الطاعة: 
إن الولاية لا قيام لها على الحقيقة إلا بالطاعة, قال عمر بن الخطاب – رضي الله عنه -: (لا إسلام إلا بجماعة, ولا جماعة إلا بإمارة, ولا إمارة إلا بطاعة).
ولذلك أمر الله تعالى بطاعة أولي الأمر, وشواهد ذلك من الكتاب والسنة كثيرة منها:
1- قوله تعلى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُوْلِي الأَمْرِ مِنْكُمْ) [النساء: 59].
قال ابن تيمية – رحمه الله -: (أولو الأمر: أصحاب الأمر وذووه  وهم الذين يأمرون الناس, وذلك يشترك فيه أهل اليد والقدرة, وأهل العلم والكلام, فلهذا كان أولو الأمر صنفين: العلماء, والأمراء, فإذا صلحوا صلح الناس, وإذا فسدوا فسد الناس).
2- عن أبي هريرة - رضي الله عنه - أنه سمع رسول الله - صلى الله عليه وسلم- يقول: "من أطاعني فقد أطاع الله, ومن عصاني فقد عصى الله ومن يطع الأمير, فقد أطاعني, ومن يعص الأمير, فقد عصاني".
3- عن عبادة بن الصامت - رضي الله عنه -: (بايعنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم- على السمع والطاعة, في العسر واليسر, والمنشط والمكره, وعلى أثرة علينا, وعلى أن لا ننازع الأمر أهله, وعلى أن نقول الحق أينما كنا لا نخاف في الله لومة لائم).
وهذه الطاعة طاعة مقيدة بطاعة الله – عز وجل – يقول ابن حجر    -رحمه الله - في الكلام عن قوله تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُوْلِي الأَمْرِ مِنْكُمْ): (قال الطيبي: أعاد الفعل في قوله (وأطيعوا الرسول) إشارة إلى استقلال الرسول بالطاعة, ولم يعده في أولي الأمر إشارة إلى أنه يوجد فيهم من لا تجب طاعته, ثم بين ذلك بقوله (فإن تنازعتم في شيء) كأنه قيل: فإن لم يعملوا بالحق فلا تطيعوهم, وردوا ما تخالفتم فيه إلى حكم الله ورسوله).
وقد دل على ذلك جملة من الأحاديث, منها:
1- عن عبدالله بن عمر - رضي الله عنهما - أن رسول الله- صلى الله عليه وسلم – قال: "على المرء السمع والطاعة فيما أحب وكره, إلا أن يؤمر بمعصية, فلا سمع ولا طاعة".
2- عن عبادة بن الصامت- رضي الله عنه- أنه قال: قال النبي      - صلى الله عليه وسلم – "سيليكم أمراء بعدي, يُعَرِّفونكم ما تنكرون, وينكرون عليكم ما تعرفون, فمن أدرك ذلك منكم  فلا طاعة لمن عصى الله".
ثانياً: التوقير والتقدير:
إن توقير الولاة واحترامهم من السنة, ففي الحديث عن أبي موسى الأشعري      - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله- صلى الله عليه وسلم-: "إن من إجلال الله - تعالى - إكرام ذي الشيبة المسلم, وحامل القرآن غير الغالي فيه والجافي عنه وإكرام ذي السلطان المقسط".
وقال حذيفة بن اليمان – رضي الله عنه -: (ما مشى قوم إلى سلطان الله في الأرض, ليذلوه إلا آذاهم الله قبل أن يموتوا).
وقال الفضيل بن عياض - رحمه الله -: (لو أن لي دعوة مستجابة, لجعلتها للإمام؛ لأن به صلاح الرعية, فإذا صلحت أمنت العباد والبلاد).
وقال سهل بن عبد الله - رحمه الله -: (لا يزال الناس بخير ما عظموا السلطان والعلماء, فإن عظموا هذين أصلح الله دنياهم وأخراهم, وإذا استخفوا بهذين, فسد دنياهم وأخراهم).
وقال طاووس بن كيسان  - رحمه الله -: (من السنة أن يوقر أربعة: العالم  وذو الشيبة, والسلطان, والوالد).
وتوقير السلطان, وتقديره من طرق نشر الأمن في الناس والطمأنينة, وإذا تجرأ الناس على السلطان بعدم التقدير والتوقير, تجرؤوا عليه بالفعل, مما ينشر الأحقاد المتبادلة, التي تؤول إلى نشر الفتن.
ثالثاً: النصيحة والنصرة ومعاونته على البر:
إن النصح للمسلم أمر واجب, والولاة من أولى الناس بذلك, ففي الحديث عن تميم الداري- رضي الله عنه - أن النبي - صلى الله عليه وسلم – قال: "الدين النصيحة, الدين النصيحة, الدين النصيحة" - قالها ثلاثاً - قلنا: لمن يا رسول الله؟ قال: "لله, ولكتابه, ولرسوله, ولأئمة المسلمين, وعامتهم".
وفي الحديث الآخر عن جبير بن مطعم- رضي الله عنه -  قال: قام رسول الله  - صلى الله عليه وسلم – بالخَيف من منى, فقال: "نضر الله امرءاً, سمع مقالتي فبلغها, فرب حامل فقه غير فقه, ورب حامل فقه إلى من هو أفقه منه, ثلاث لا يغل عليهن قلب مؤمن: إخلاص العمل لله, والنصيحة لولاة المسلمين, ولزوم جماعتهم, فإن دعوتهم تحيط من ورائهم".
والنصح كلمة عامة تدل على صدق القلب في رغبة الخير للمنصوح, ورغبة الخير منه, قال ابن الصلاح - رحمه الله -: (النصيحة كلمة جامعة, تتضمن قيام الناصح للمنصوح له بوجوه الخير إرادة وفعلاً) فتشتمل على المعاونة والطاعة والنصرة.
قال الإمام النووي – رحمه الله -: (وأما النصيحة لأئمة المسلمين فمعاونتهم على الحق وطاعتهم فيه, وأمرهم به وتنبيههم, وتذكيرهم برفق ولطف, وإعلامهم بما غفلوا عنه, ولم يبلغهم من حقوق المسلمين, وترك الخروج عليهم, وتألف قلوب الناس لطاعتهم).
وقال ابن رجب - رحمه الله -: (والنصيحة لأئمة المسلمين: معاونتهم على الحق, وطاعتهم فيه, وتذكيرهم به, وتنبيههم في رفق ولطف, ومجانبة الوثوب عليهم, والدعاء لهم بالتوفيق, وحث الأغيار على ذلك).
وقال الخطابى - رحمه الله -: (ومن النصيحة لهم: الصلاة خلفهم, والجهاد معهم, وأداء الصدقات إليهم, وترك الخروج بالسيف عليهم إذا ظهر منهم حيف أو سوء عشرة, وأن لا يغروا بالثناء الكاذب عليهم, وأن يدعى لهم بالصلاح). 
والنصيحة التي يقوم بها المسلم للحاكم من بيان الحق والدلالة عليه, نصيحة صادقة لا نفاق فيها, فقد عقد الإمام البخاري –رحمه الله – باباً سماه: باب: ما يكره من ثناء السلطان, وإذا خرج قال غير ذلك, وأورد  فيه أن أناساً قالوا لابن عمر: إنا ندخل على سلطاننا فنقول لهم بخلاف ما نتكلم إذا خرجنا من عندهم قال: كنا نعدها نفاقاً.
وقصة هذا أن عبدالله بن عمر - رضي الله عنهما – لقي أناساً خرجوا من عند مروان بن الحكم, فقال: من أين جاء هؤلاء؟ قالوا: خرجنا من عند الأمير مروان. قال: وكل حق رأيتموه, تكلمتم به وأعنتم عليه, وكل منكر رأيتموه أنكرتموه عليه؟ قالوا: لا, والله, فإذا خرجنا من عنده, قلنا: قاتله الله ما أظلمه وأفجره .... قال عبد الله: كنا بعهد رسول الله  - صلى الله عليه وسلم – نعد هذا نفاقاً.
ولذلك فإن الحاكم يبين له الحق بالأسلوب المناسب لمقامه, وقدره, ففي الحديث عن عياض بن غنم الأشعري - رضي الله عنه - قال: قال - صلى الله عليه   وسلم – قال: "من عنده نصيحة لذي سلطان فلا يكلمه بها علانية, وليأخذ بيده فليخل به, فإن قبلها, وإلا كان قد أدى الذي عليه والذي له".
فإن كان الحاكم جائراً أو ظالماً كان الناصح مأجوراً في أدائه النصيحة؛ حتى وإن أدى به ذلك إلى الهلاك, فعن أبي أمامة قال جاء رجل إلى النبي- صلى الله عليه وسلم - وهو عند الجمرة الأولى, فقال: يا رسول الله أي الجهاد أفضل؟ قال: فسكت عنه, ولم يجبه, ثم سأله عند الجمرة الثانية, فقال له مثل ذلك, فلما رمى النبي  - صلى الله عليه وسلم- جمرة العقبة, ووضع رجله في الغرز قال: "أين السائل " قال: أنا ذا يا رسول الله, قال: "أفضل الجهاد: كلمة حق عند سلطان جائر".
وأما النصرة والتعاون على الخير, فهما حقان واجبان لكل مسلم, والحاكم من باب أولى, فقد قال تعالى: (وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَلا تَعَاوَنُوا عَلَى الإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ) [المائدة:2] وفي الحديث أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم – قال: "انصر أخاك ظالماً, ومظلوماً" قالوا: يا رسول الله, هذا ننصره مظلوماً, فكيف ننصره ظالماً ؟ قال: " تأخُذُ فوق يديه". 
قال أبو يعلى - رحمه الله -: (وإذا قام الإمام بحقوق الأمة, وجب له عليهم حقان: الطاعة, والنصرة, ما لم يوجد من جهته ما يخرج به عن الإمامة).
 
ثانياً: واجبات الإمام (حقوق الرعية):
أولاً: إقامة الدين والحكم بشريعة سيد المرسلين - صلى الله عليه وسلم:
إن الحكمة من خلق الجن والإنس القيام بعبادة الله وحده: (وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون) [الذاريات:56] وبالتبع فإن المقصود الأعظم من الولايات إقامة الدين.
قال ابن تيمية – رحمه الله -: (المقصود الواجب بالولايات إصلاح دين الخلق الذي متى فاتهم خسروا خسراناً مبيناً, ولم ينفعهم ما نعموا به في الدنيا, وإصلاح ما لا يقوم الدين إلا به من أمر دنياهم).
وقال أيضاً - رحمه الله -: (وإقامة الحدود واجب على ولاة الأمر, وذلك يحصل بالعقوبة على ترك الواجبات وفعل المحرمات).
فأول واجب على الحاكم أن يسوس الدنيا بالدين, ويحكم بشريعة سيد المرسلين - صلى الله عليه وسلم – والآيات والأحاديث الموجبة للحكم بما أنزل الله كثيرة منها:
1- قوله تعالى: (إِنْ الْحُكْمُ إِلاَّ لِلَّهِ أَمَرَ أَلاَّ تَعْبُدُوا إِلاَّ إِيَّاهُ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ) [يوسف:40].
2- وقوله تعالى: (وَأَنزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقاً لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنْ الْكِتَابِ وَمُهَيْمِناً عَلَيْهِ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ وَلا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ عَمَّا جَاءَكَ مِنْ الْحَقِّ) [المائدة: 48].
فهذه  الآية أمر صريح للنبي ومن بعده من ولاة أمر المسلمين بالحكم بشرع الله ودينه, قال الحافظ ابن كثير – رحمه الله -: (فاحكم يا محمد بين الناس عربهم وعجمهم, أميهم وكتابيهم, بما أنزل الله إليك في هذا الكتاب العظم, وبما قرره لك من حكم من كان قبلك من الأنبياء, ولم ينسخه في شرعك). والآيات والأحاديث في هذا المعنى كثيرة.
ثانياً: الإصلاح والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر:
ومن تمام إقامة الدين دعوة الناس إليه, وأمرهم بالاستقامة عليه, قال شيخ الإسلام ابن تيمية – رحمه الله -: (جميع الولايات في الإسلام مقصودها أن يكون الدين كله لله, وأن تكون كلمة الله هي العليا) ثم قال – رحمه الله -: (وكل الولايات الإسلامية إنما مقصودها الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر) وأضاف: (وولي الأمر إنما نُصِّب ليأمر بالمعروف وينهى عن المنكر, هذا هو مقصود الولاية فإذا كان الوالي يُمَكَّنُ من المنكر بمال يأخذه, كان قد أتى بضد المقصود, مثل من نصبته ليعينك على عدوك, فأعان عدوك عليك, وبمنزلة من أخذ مالاً ليجاهد في سبيل الله فقاتل به المسلمين).
وعلى الحاكم أن يأمر وينهى ويضرب على يد السفيه, ويأطره على الحق أطراً ومن الإصلاح والأمر بالمعروف, تحصين الأمة من البدع والضلالات والشبه.
قال أبو يعلى - رحمه الله -: (إن على الإمام حفظ الدين على الأصول التي أجمع عليها سلف الأمة, فإن زاغ ذو شبهة عنه بين له الحجة, وأوضح له الصواب وأخذه بما يلزمه من الحقوق والحدود؛ ليكون الدين محروساً من خلل , والأمة ممنوعة من الزلل).
ويكون الإمام الناصح لأمته أسبق الناس إلى الخير, سئل أبو بكر الصديق        - رضي الله عنه – ما بقاء هذا الأمر الصالح الذي جاء الله به بعد الجاهلية ؟ قال: (ما استقامت بكم أئمتكم).
والأدلة على أهمية الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر, كثيرة متضافرة.
ثالثاً: الرفق بالرعية والإشراف على تدبير الأمور:
إنه كما يؤمر الرعية بالنصح للحاكم, فإن الحاكم مأمور بالرفق بالرعية والاهتمام بأحوالهم ومباشرة ذلك بنفسه.
قال أبو يعلى - رحمه الله – في سياق الكلام عن واجبات الإمام: (.... أن يباشر بنفسه مشارفة الأمور, وتصفح الأحوال؛ ليهتم بسياسة الأمة وحراسة الملة  ولا يعول على التفويض تشاغلاً بلذة أو عبادة, فقد يخون  الأمين ويغش الناصح وقد قال الله تعالى: (يا داود إنا جعلناك خليفة في الأرض فاحكم بين الناس بالحق ولا تتبع الهوى) [ص: 26] فلم يقتصر سبحانه على التفويض دون المباشرة, وقد قال النبي - صلى الله عليه وسلم – " كلكم راع, وكلكم مسؤول عن رعيته").
وقد دلت أحاديث كثيرة على أهمية هذا الأمر منها:
1- قول النبي - صلى الله عليه وسلم -: "اللهم من ولي من أمر أمتي شيئاً فشق عليهم, فاشقق عليه, ومن ولي من أمر أمتي شيئاً, فرفق بهم, فارفق به".
قال الإمام النووي – رحمه الله -: (هذا من أبلغ الزواجر عن المشقة وأعظم الحث على الرفق بهم, وقد تظاهرت الأحاديث بهذا المعنى).
2- عن معقل بن يسار- رضي الله عنه – قال سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم- يقول: "ما من وال يلي رعية من المسلمين, فيموت وهو غاش لهم إلا حرم الله عليه الجنة "وفي رواية" ما من أمير يلي أمر المسلمين, ثم لا يجهد لهم إلا لم يدخل الجنة معهم".
3- عن عمرو بن مرة الجهني – رضي الله عنه – أن النبي- صلى الله عليه وسلم- قال: "من ولاه الله - عز وجل -شيئاً من أمر المسلمين فاحتجب دون حاجتهم, وخلتهم, وفقرهم, احتجب الله عنه دون حاجته, وخلته, وفقره".
ولا يقصد بهذا ألا يستعين الحاكم بأحد, فذلك فرض مستحيل, إذ لا بد للحاكم من أعوان من الولاة والعمال فمن دونهم (فيجب على ولي الأمر أن يولي على كل عمل من أعمال المسلمين أصلح من يجده لذلك العمل).
ويجتهد في ذلك وسعه, وفي هذا الأمر يقول تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا بِطَانَةً مِنْ دُونِكُمْ لا يَأْلُونَكُمْ خَبَالاً وَدُّوا مَا عَنِتُّمْ قَدْ بَدَتْ الْبَغْضَاءُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ وَمَا تُخْفِي صُدُورُهُمْ أَكْبَرُ قَدْ بَيَّنَّا لَكُمْ الآيَاتِ إِنْ كُنْتُمْ تَعْقِلُونَ) [آل عمران: 118] فنهى عن اتخاذ الكفار والمنافقين بطانة يستشارون ويقربون من دون أهل الإيمان, وفي الحديث: "من قلد رجلاً عملاً على عصابة, وهو يجد في تلك العصابة أرضى منه, فقد خان الله ورسوله, وخان المؤمنين".
رابعاً: استيفاء الحقوق المالية وصرفها في مصاريفها الشرعية:
إن الشرع الإسلامي شرع متكامل ينتظم الحياة كلها, ومن ذلك الأمور المالية والاقتصادية, والشارع الحكيم ضبط هذه الأمور فجعل لبيت المال موارد ومصارف وحدد ذلك, والسلطان مؤتمن في استيفاء الأموال من وجوهها الشرعية المتمثلة في: (الزكاة, والجزية, والخراج, والعشور, والغنائم, والفيء) وبعض الموارد الأخرى كالمال الذي توفى عنه صاحبه ولا وارث له, ثم ينفقها في المصارف المحددة لذلك شرعاً, فيصرف الزكاة لأهلها من الأصناف الثمانية, وينفق الفيء في مصالح المسلمين.
وإذا قسم المال يبتدىء بالأهم فالمهم من مصالح المسلمين, ومن ذلك: رواتب الجيش, وذوي الولايات كولاة والقضاة والموظفين, ومصالح المسلمين كالطرق والجسور والخدمات العامة, والمستحقين والمؤلفة قلوبهم ونحو ذلك.
قال أبو يعلى – رحمه الله – في سياق الكلام عن وجبات الإمام: (.... السابع: جباية الفيء والصدقات على ما أوجبه الشرع نصاً واجتهاداً من غير عسف.
الثامن: تقدير العطاء وما يستحق في بيت المال من غير سرف ولا تقصير فيه ودفعه في وقت لا تقديم فيه ولا تأخير).
أما بالنسبة لنصيب الإمام لنفسه, فإن أهل الحل العقد يحددون ما يرونه كفاء قيامه بمهام الإمامة, وتصديه لأمور المسلمين العامة.
فعن عطاء بن السائب قال: لما استُخلِف أبو بكر - رضي الله عنه - أصبح غادياً إلى السوق, وعلى رقبته أثواب يتَّجر بها, فلقيه عمر بن الخطاب وأبو عبيدة بن الجراح – رضي الله عنهما – فقالا له: أين تريد يا خليفة رسول الله؟ قال: السوق. قالا: تصنع ماذا, وقد وليت أمر المسلمين؟ قال: فمن أين أطعم عيالي؟ قالا له: انطلق حتى نفرض لك شيئاً, فانطلق معهما, ففرضوا له كل يوم شطر شاة, وما كسوه في الرأس والبطن.
%         %         %
 
إن الناظر في مجمل ما قرره أهل العلم من حقوق الإمام (واجبات الأمة) وواجبات الإمام (حقوق الأمة) يتضح له أنه متى اختلت هذه العلاقة باختلال شيء من هذه الحقوق, فإن ذلك مؤذن بالفتنة.
ولقد أبان لنا النبي - صلى الله عليه وسلم- أن محبة الإمام لرعيته, ومحبة الرعية لإمامهم, نصح كلٍّ للطرف الآخر من علامات الخير, وأن كره الإمام لرعيته, وكره الرعية لإمامهم, وغش كلٍّ للطرف الآخر من علامات الشر, ففي الحديث عن عوف بن مالك –رضي الله عنه - عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم- قال: "خيار أئمتكم الذين تحبونهم ويحبونكم, ويصلون عليكم وتصلون عليهم, وشرار أئمتكم الذين تبغضونهم ويبغضونكم, وتلعنونهم ويلعنونكم".
ولذلك فإن حقاً على كل المسلمين أن يستشعروا النصح والحب المتبادل بين الأطراف التي يمثلها عقد الإمامة (الملك والشعب) (الرعية والراعي).
وإن وجد شيء من المخالفات من أي  من الطرفين - وهذا شأن البشر - فقد جاءت الشريعة بحسن المعالجة.
فقد جاءت الشريعة بعدم منازعة الأمر أهله, مهما كان السبب, ما لم يرق إلى الكفر البواح.
ففي حديث عبادة بن الصامت – رضي الله عنه – قال: (بايعنا رسول الله      - صلى الله عليه وسلم - على السمع والطاعة, في منشطنا ومكرهنا, وعسرنا ويسرنا, وأثرة علينا, وأن لا ننازع الأمر أهله, إلا أن ترو كفراً بواحاً عندكم من الله فيه برهان)، قال ابن تيمية - رحمه الله -: (فأمرهم بالطاعة, ونهاهم عن منازعة الأمر أهله وأمرهم بالقيام بالحق)
وعن ابن عباس - رضي الله عنهما – قال: قال النبي - صلى الله عليه وسلم-: "من رأى من أميره شيئاً يكرهه, فليصبر فإنه ليس أحد يفارق الجماعة شبراً فيموت إلا مات ميتة جاهلية "وفي رواية" من كره من أميره شيئاً فليصبر, فإنه من خرج من السلطان شبراً, فمات, مات ميتة جاهلية"
قال العيني – رحمه الله -: (قوله "من خرج " أي: من طاعته, قوله" فليصبر"يعني فليصبر على ذلك المكروه, ولا يخرج من طاعته, لأن في ذلك حقن الدماء وتسكين الفتنة, إلا أن يكفر الإمام, ويظهر خلاف دعوة الإسلام, فلا طاعة لمخلوق عليه).
وعن ابن مسعود - رضي الله عنه – قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم-: "إنها ستكون بعدي أثرة وأمور تنكرونها" قالوا: يا رسول الله كيف تأمر من أدرك ذلك منا؟ قال: "تؤدون الحق الذي لكم, وتسألون الله الذي لكم".
وعن عبادة بن الصامت - رضي الله عنه -: (بايعنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم- على السمع والطاعة, في العسر واليسر, والمنشط والمكره, وعلى أثرة علينا, وعلى أن لا ننازع الأمر أهله, وعلى أن نقول الحق أينما كنا لا نخاف في الله لومة لائم).
قال ابن تيمية - رحمه الله -: (فأمر مع ذكره لظلمهم بالصبر, وإعطاء حقوقهم, وطلب المظلوم حقه من الله, ولم يأذن للمظلوم المبغي عليه بقتال الباغي في مثل هذه الصور التي يكون القتال فيها فتنة, كما أذن في دفع الصائل بالقتال.. فإن قتال اللصوص ليس قتال فتنة؛ إذ الناس كلهم أعوان على ذلك, فليس فيه ضرر عام على غير الظالم, بخلاف قتال ولاة الأمور, فإن فيه فتنة وشراً عاماً أعظم من ظلمهم, فالمشروع فيه الصبر) ولكن كثيراً (ممن خرج على ولاة الأمور .... إنما خرج لينازعهم مع استئثارهم عليه, ولم يصبروا على الاستئثار, ثم إنه يكون لولي الأمر ذنوب أخرى, فيبقى بغضه لاستئثاره يعظم تلك السيئات, ويبقى المقاتل ظاناً أنه يقاتله لئلا تكون فتنة ويكون الدين لله.
ومن أعظم ما حركه عليه طلب غرضه: إما ولاية, أو مال, فإذا اتفق من هذه الجهة شبهة وشهوة, ومن هذه الجهة شهوة وشبهة قامت الفتنة.
والشارع أمر كل إنسان بما هو المصلحة له وللمسلمين, فأمر الولاة بالعدل والنصح لرعيته .... وأمر الرعية بالطاعة والنصح .... وأمر بالصبر على استئثارهم ونهى عن مقاتلتهم ومنازعتهم الأمر مع ظلمهم؛ لأن الفساد الناشئ من القتال أعظم من فساد ظلم ولاة الأمر, فلا يزال أخف الفاسدين بأعظمهما) (ولا تقع فتنة إلا من ترك ما أمر الله به, فإنه سبحانه أمر بالحق وأمر بالصبر, فالفتنة إما من ترك الحق وإما من ترك الصبر).

أخبار قد تعجبك

No stories found.
صحيفة سبق الالكترونية
sabq.org