ألم تتوارثه الأجيال؟!

ألم تتوارثه الأجيال؟!
مما يحز في النفس، ويؤلم المشاعر، أن يعلو صوت مواطن مطالباً بمستوصف أو مستشفى يقدِّم له العلاج ولو بطبيب عام، ولا يجد ذلك، وقد قدر عليه أن يعيش في قرية أو هجرة؛ ذلك أن الظروف المحيطة به تجعل من توافر الغذاء والدواء حاجة ملحّة نتيجة البُعد المكاني عن المدن الكبيرة.. ولأن موضوع المرض لا يفرق بين كبير وصغير، وبين غني وفقير؛ فالكل عرضة له.
 
والشكوى الدائمة من قاطني هذه المناطق النائية واحدة، وتنحصر في وجود مبنى بمسمى مستوصف، يداوم فيه في أحسن الظروف طبيب منتدب وممرضة، وقد يأتي اليوم، وينتدب من الغد بدون إبداء الأسباب، والعلاج في الغالب نوعان (مسكن ومضاد حيوي)، إما بشكل شراب أو سائل أو بشكل حبوب. وللأمانة، فالمريض يخيَّر بين الحبوب والسائل، ويوصف لعموم المرضى، وحتى الأطفال من الجنسين.
 
وفوق هذا كله اختلال الدوام في هذه المستوصفات، وليس من حقك أن تسأل لماذا لم يأتِ الدكتور أو غيره؛ لأنك ببساطة لن تجد من يجيبك!
تُرى، كم عدد المراكز والقرى والهجر التي تحتاج إلى توفير رعاية طبية حقيقية، وليست شكلية لمجرد ذر الرماد في العيون؟ وهل لدى وزارة الصحة قاعدة معلومات بالعدد الحقيقي لكل سكان هذه الأماكن واحتياجاتهم الفعلية؟.. والمحير فعلاً، والشيء الذي يجعلنا نتوقف ونفكر كثيراً فيه، تراكم المدة الزمنية التي استمر عليها هذا الوضع، وبدون تغيير يُذكر، بل إن الأمور تراجعت للأسوأ نتيجة التزايد العددي للسكان، وظهور أمراض جديدة فرضت واقعاً صحياً جديداً، لم يتسنَّ للمسؤولين في وزارة الصحة استيعاب معطياته.
 
فالناس في تلك المناطق تتحدث عن عقود من الزمن طالهم فيها الإهمال والتهميش، ويروون العديد من القصص التي هي أقرب للخيال منها للواقع؛ فهناك ما يشير إلى وجود فساد إداري ومالي في الإدارة المعنية بشؤون المستوصفات والمستشفيات الحكومية، وغياب الحساب والمساءلة، في ظل غياب "نزاهة" غير المبرر عن هذه المأساة حتى يومنا هذا، فاقم من حجم المشكلة.
 
للأسف، إن وضع المستوصفات (مراكز الرعاية الصحية الأولية)، وكذلك المستشفيات التابعة لوزارة الصحة، بحاجة إلى إعادة نظر، وإعادة هيكلة لكل ما يمس جانب المنشآت الطبية.
 
فبالرغم من انتشار مراكز الرعاية الصحية في المدن الرئيسة إلا أنها تعاني مشاكل كثيرة، أهمها أن بعضها مستأجَر، وفي ظل غياب الإدارة الواعية، وانعدام النظافة والتعقيم، فضلاً عن سوء المعاملة، عليك أن تواجه تقطب جبين الطبيب أو الطبيبة العامة، مستغلين غياب المحاسبة والعقاب من قِبل إدارة هذه المراكز التي لا توجد إلا نادراً. والمفاجأة الكبرى أن هذه المراكز التي ينبغي أن تكون المرحلة الأولى لما قبل الإحالة للمستشفيات الحكومية لا يوجد بها سيارة إسعاف لو تطلب الأمر نقل حالة إسعافية لأقرب مستشفى!
حقيقة، لا أود التوسع في تشخيص وضع المستوصفات أو مراكز الرعاية الصحية الأولية، وكذلك المستشفيات؛ فيكفي ما يتكبده المراجعون لها من مشاكل لا حصر لها، ولكن ما يهمني الآن هو السؤال الذي يفرض نفسه على وزارة الصحة، وهو: ما مخصص الوزارة من الميزانية العامة للدولة للصرف على المستوصفات والمستشفيات في القرى والهجر والأرياف؟ فالمتعارف عليه أن اعتماد الميزانية لكل وزارة يعتمد بالدرجة الأولى على أوجه الصرف المخصصة له. إذن، فهناك خلل كارثي، أدى إلى تأخر تأمين خدمات طبية لعدد من القرى لمدة تجاوزت العقدين من الزمان. ولا ننسَ أن اعتمادات الميزانية تخصص بشكل سنوي لكل وزارة، بناءً على حاجاتها المرتبطة بالجهات والمرافق التي تعمل تحت مظلة هذه الوزارة أو تلك. إذن، فلا عذر البتة لأي ادعاء بالقصور في جانب اعتمادات الميزانية.
 
والجواب نتركه للجهات المعنية بالبحث والتحري والتحقيق في هذا الشأن، وأقصد الهيئة الوطنية لمكافحة الفساد، والهيئة الوطنية لحقوق الإنسان. وأحيط الهيئتين علماً بأن المعلومات التي وردت في هذا المقال موثقة من خلال بلاغات المواطنين عبر البرنامج الإذاعي الرائع (صوت الموطن)، الذي يبث عبر إذاعة البرنامج العام من الرياض.
 
وقد تكررت الشكاوى، ومن أكثر من مواطن، ومن أكثر من محافظة، فضلاً عما نحن مطلعون عليه في المدن الكبرى التي نعيش فيها. فقد لا يتصور البعض حجم المعاناة النفسية المضافة للألم العضوي الذي يشعر به عائل الأسرة أو عائلتها وهما يقفان عاجزَين أمام إنقاذ مريض أو تقديم أية مساعدة طبية قد تخفف من آلامه، فكيف الحال عندما يتطلب الأمر نقل هذا المريض إلى مسافة تتجاوز مئات الكيلومترات من أجل إجراء فحص له؟! ولكم أن تتصورا كم هو حجم المعاناة التي يواجهها هذا العائل وهو يصل بمريضه أو مريضته بعد رحلة العناء هذه إلى قسم الطوارئ، وكم من الوقت يلزمه لكي ينتظر من أجل الكشف على هذا المريض، ومن ثم يقرر له العلاج، أو ربما أُعطي مسكناً، وطُلب منه أن يراجع بعد شهرين! هل تخيلتم حجم المأساة المخيفة وعظم النازلة؟ ولكم أن تتخيلوا لو تعسرت ولادة امرأة في مثل هذه الظروف، وفي مثل هذه القرى والهجر التي لا تنعم بطرق مسفلتة، وهي في الغالب طرق ممهدة، وقد تكون جبلية؛ ما يفاقم ويصعب من الأمر.
 
أسوق هذه المعاناة لكل معنيّ في وزارة الصحة لعلمي بأن مثل هذه الإشكاليات ليست بالأمر الذي يمكن التغاضي عنه أو تأجيله، وهناك المليارات التي رُصدت لبناء مستوصفات أو مراكز رعاية صحية أولية ومستشفيات، فأين ذهب نصيب هذه القرى من هذه المنشآت؟ والمشكلة مستمرة منذ عقود، وليست وليدة الساعة؛ وهو ما يتطلب تدخلاً عاجلاً لإنقاذ المناطق النائية من تردي الخدمات الصحية أو انعدامها. فهل من مجيب؟؟

أخبار قد تعجبك

No stories found.
صحيفة سبق الالكترونية
sabq.org