"نزاهة" والبكاء على اللبن المسكوب

"نزاهة" والبكاء على اللبن المسكوب
تم النشر في
جاء في زاوية "سبق تقول للمسؤول" ما نصه: "تظل المؤسسة العامة للخطوط الحديدية السعودية واحدة من القطاعات الحكومية التي لا يزال يحاصرها الفشل منذ أكثر من 30 عاماً، وتوجَّه لها اتهامات رسمية بالفساد منذ أعوام عدة مضت، وتحيط بها شبهات الهدر المالي، وضعف الإدارة، وخلل الهيكلة، وسوء التصرف في المال العام.. والسبب أن خط سكة حديد (وحيداً)، لا يتجاوز طوله 400 كيلومتر، من الرياض للدمام، يعاني كل هذه السلبيات، ويغرق في كل هذا الإهمال، وتكثر فيه حوادث الاصطدام بالحيوانات السائبة وبالسيارات العابرة، وتتكرر انقلابات عرباته المتهالكة، وتتعطل قطاراته الجديدة (المكلفة)؛ بسبب ارتفاع الحرارة، والغبار!! ويشتكي المسافرون من سوء خدمات الحجز، وتأخر مواعيد الرحلات، على قلّتها، وتردي النظافة العامة في المحطات والعربات، والمطاعم، و(مزاجية) مشرفي المحطات، والتوقف المتكرر، والتأرجح المزعج".
 
وتضيف "سبق": "إن التطلعات والطموح العام بأن تكون قطارات مؤسسة الخطوط الحديدية السعودية خلال السنوات القليلة المقبلة هي الخيار الأول للسفر في بلادنا لم يعودا خيارَيْن مُجْديَيْن ولا منطقيَّيْن، في ظلّ كل هذه السلبيات التي تحيط بها. فعلى الرغم من دعم الدولة لهذه المؤسسة بميزانية سنوية، تبلغ 9 مليارات وواحد وعشرين مليون ريال، إلا أنها غارقة حتى قمة رأسها في ضعف الكفاءة، وتكرار الأخطاء، والخطط الفاشلة فشلاً ذريعاً في إثبات قدرتها على تسيير (خط سكة قطار واحد)، وإيجاد قطارات حديثة تخدم المسافرين، وتدعم قطاع النقل بشكل عام".
 
وأجد أن القضية برمتها تلقي بثقلها على الهيئة الوطنية لمكافحة الفساد التي لم تحرك ساكناً أمام هذه التساؤلات والمعلومات الخطيرة التي طرحتها "سبق" من خلال هذه الزاوية. فهل يعقل أن "نزاهة" لم تطلع على فحوى ما ورد؟ أو أنها اطلعت وتجاهلت الموضوع؟ أو أنه خارج اختصاصها كما تصرح غالباً في مواضيع مشابهة، وفي تصريحات كثيرة للمصدر الوحيد المسؤول فيها؟
 
وهنا أجد نفسي مضطراً لأعود وأذكّر بأن عدّاد الوقت لـ"نزاهة "بدأ في العد التنازلي؛ إذ إن نزاهة في الثالث عشر من شهر ربيع الآخر لهذا العام "1436هـ" سوف تدلف - بمشيئة الله - للسنة الخامسة، منهية بذلك أربع سنوات عجافاً، لم نرَ فيها من العمل ما يرقى إلى تطلعات المواطن وولي الأمر في مكافحة الفساد وحماية النزاهة، اللهم إلا بعض الأعمال من هنا وهناك، وعلى استحياء، وتجاذبات مع مجلس الشورى، لا دخل للمواطن ومصالحه فيها، وتوزيع كتيبات ومشاركات في معارض ومهرجانات وورش تدريب، إضافة إلى الاستمرار في بث الرسائل النصية الوعظية عبر شبكة الجوال.
وأجدني مضطراً إلى تذكير نزاهة بإعادة قراءة وتأمل الاستراتيجية الوطنية لحماية النزاهة ومكافحة الفساد الصادرة بقرار مجلس الوزراء رقم "43" وتاريخ 1/ 2/ 1428هـ، وتحديداً فيما ورد في ثالثاً، وهو الجزء من الاستراتيجية الخاص بالوسائل التي تلزم لتحقيق أهداف الاستراتيجية الوطنية المنوه عنها أعلاه. وهذه الوسائل تنص على:
 
تشخيص مشكلة الفساد في السعودية عن طريق تنظيم قاعدة معلومات وطنية لحماية النزاهة ومكافحة الفساد، تشتمل على جميع الوثائق النظامية والإدارية، ورصد المعلومات والبيانات والإحصاءات الدقيقة عن حجم المشكلة، وتصنيفها، وتحديد أنواعها، وأسبابها وآثارها، وأولوياتها، ومدى انتشارها زمنياً ومكانياً واجتماعياً. وهذه الوسيلة - للمعلومية - يتفرع منها ست فقرات، كل واحدة تمثل مجالاً بحثياً منفصلاً بذاته، ولكن أين هذه الأبحاث يا نزاهة؟؟
 
وسأتوقف عند هذه الوسيلة التي تستحق أن تُكتب بماء الذهب؛ لأنها تقدم لنزاهة برنامج عمل متكامل الجوانب والعناصر والأركان وما كان ينبغي لنزاهة لو استغلت الوقت، واستقطبت الكفاءات العلمية التي رمزت لإحداها في مقال سابق من حاملي الشهادات العليا والمؤهلين علمياً والمتمرسين إدارياً، أمثال الأستاذ الدكتور عبدالله الحقيل والأستاذ الدكتور محمد الحيزان والأستاذ الدكتور فهد العسكر. ولا يفوتني أن أذكر عراب الإدارة في المملكة العربية السعودية الأستاذ الدكتور محمد الطويل، الذي رأس في يوم من الأيام صرحاً علمياً للإدارة، وما زال هذا الصرح يتبوأ المكانة العليا بين أمثاله من المعاهد على الصعيد العربي، ولا أبالغ إن قلت على الصعيد الدولي، ذلك هو معهد الإدارة العامة.
 
 وأعود لموضوعي الأساس، فأسأل: ماذا صنعتِ يا نزاهة حيال هذه الوسيلة، التي قدمت لكِ برنامج عمل متكاملاً، ولم يبقَ إلا الاستعانة بالمؤهلين لوضع اللمسات الأخيرة المتمثلة في إعداد الدراسات، ووضع الآليات، والتنفيذ الفوري لهذه البرامج بأسس علمية وبلغة الأرقام، لا بلغة الأماني والتطلعات التي لا تنتج إلا المزيد من التخلف واليأس المتعاقب؟
ومما يؤسف له أن التطبيق العملي لما جاء في الاستراتيجية هو ما يغيب عن نزاهة، في الوقت الذي يجب أن يكون هو ضالتها؛ فالحكمة هي ضالة المؤمن، أنَّى وجدها فهو أحق الناس بها، وها هي ضالتكم يا نزاهة استراتيجية متكاملة - والكامل وجه الله سبحانه وتعالى - لا تحتاج سوى التطبيق بأسس علمية. وحسبي أن ما توافر لنزاهة من استقلالية مادية وإدارية يؤهلها، بل يلزمها وطنياً وأخلاقياً بتحمل مسؤولياتها تجاه من وضع الثقة بها، وعدم التذرع بأسباب واهية، وعدم تجاوب المسؤولين، فلا تتوقع نزاهة أن يأتيها المقصر المنتفع ليعترف بين يديها بذلك؛ فعليها أن تبحث هي عنه، ومتى ما أُدين تحاسبه أو تقدمه للعدالة لتحاسبه.
ودعوني أسوق لكم من الدرر التي وردت في هذه الاستراتيجية، مما اشتملت عليه الوسيلة الثالثة من إقرار مبدأ الوضوح (الشفافية)، وتعزيزه داخل مؤسسات الدولة عن طريق التشديد على مسؤولي الدولة بأن الوضوح وسيلة فاعلة للرقابة على الفساد، وأن اعتماده كممارسة وتوجه أخلاقي يضفي على العمل الحكومي المصداقية والاحترام. ومن أهم ما ورد في هذه الوسيلة من فقرات، وبشكل واضح ومستقل، ولا لبس فيه: وضع نظام لحماية المال العام. والسؤال: ماذا فعلت نزاهة تجاه حماية المال العام؟ وهل المال العام لا يحتاج لحماية؟ ألا توجد علامات استفهام حيال استخدام هذا المال العام؟ أليس ما تطرقت له "سبق" من أنه على الرغم من دعم الدولة للمؤسسة العامة للخطوط الحديدية السعودية بميزانية سنوية، تبلغ تسعة مليارات وواحداً وعشرين مليون ريال، إلا أنها غارقة حتى قمة رأسها في ضعف الكفاءة، وتكرار الأخطاء، والخطط الفاشلة فشلاً ذريعاً في إثبات قدرتها على تسيير "خط سكة قطار واحد"، وإيجاد قطارات حديثة تخدم المسافرين، وتدعم قطاع النقل بشكل عام.. ولا تزال المؤسسة ترجع أسباب عدم القدرة على مواكبة التطلعات لعدم توافر الاعتمادات المالية رغم الميزانية "المليارية".. والسؤال المطروح هنا هو: ألم يثر هذا الحديث حفيظة نزاهة للتحقيق النزيه في الأمر، ووضع النقاط على الحروف، أم علينا تعلم طريقة قراءة الحروف غير المنقطة؟ وهل بإمكان نزاهة أن تجيب عن تساؤلات "سبق" المشروعة في هذا الشأن؟ ومما ورد في فقرة أخرى من هذه الوسيلة: توضيح إجراءات عقود مشتريات الحكومة والمؤسسات العامة والشركات المساهمة، وإعطاء الجمهور والمؤسسات المدنية ووسائل الإعلام حق الاطلاع عليها ونقدها. فما هي جهود نزاهة، التي حسب علمي أنها صفرية، في هذا الخصوص؟
وأختم بأهم وأخطر ما ورد في الاستراتيجية الوطنية، وهو ما ورد في الوسيلة السادسة من الاستراتيجية الوطنية، حيال تحسين أوضاع المواطنين الأسرية والوظيفية والمعيشية عن طريق التشديد على مبدأ تحسين أوضاع المواطنين الأسرية والوظيفية والمعيشية، وبخاصة ذوو الدخل المحدود، وتوفير الخدمات الأساسية لهم، ومن خلال إيجاد الفرص الوظيفية في القطاعين العام والخاص، بما يتناسب مع الزيادة المطردة لعدد السكان الخريجين، والاهتمام بتأهيلهم طبقاً لاحتياجات سوق العمل، والحد من استقدام العنصر الأجنبي، والعمل على تحسين رواتب الموظفين العاملين، وبخاصة المراتب الدنيا.
وأكاد أجزم بأنه لو استطاعت نزاهة أن تلبي متطلبات الوسيلة السادسة لقدمت أكبر خدمة يمكن أن تقدَّم للمجتمع، ولكن – للأسف - لا أعلم لماذا تتجاهل نزاهة منذ تأسيسها هذا الملف الحساس والمهم لأكبر شريحة في المجتمع السعودي؟ ألم تشعر نزاهة بحجم المعاناة التي تقض مضاجع الفقراء والمعوزين؟ ألا تشعر نزاهة بتأنيب الضمير من تجاهل هذه الشريحة؟ وأين دور نزاهة في مجال المسؤولية الاجتماعية إن هي غضت الطرف عما ورد في الاستراتيجية؟ أسئلة ملحّة، لن أكلّ أو أملّ من طرحها حتى أجد لها إجابة بإذن الله.
أعتقد أن الجميع يتفق معي في أهمية هذه الوسيلة، ولكن المحير والمثير للجدل تغاضي نزاهة عن التعاطي مع هذه الوسيلة، بشكل يثير الكثير من التساؤلات. فهناك الكثير من الأسر المتضررة من غلاء المعيشة بشكل مخيف، وهناك الكثير من العاطلين عن العمل رغم تأهيلهم الممتاز، وهناك الكثير من المعاناة من أصحاب الدخول المحدودة الذين يعانون الأمرين في دفع أجور مساكنهم المستأجرة. ومما يزيد الأمر تعقيداً أن غالبية كبيرة من هذه الأسر تُعال من قِبل أرامل ومطلقات أو زوجات لمساجين، فما عذر نزاهة على مدى أربع سنين وهي تتغاضى عن فتح هذا الملف الشائك، والبدء في رفع المعاناة عن المواطنين، رغم أنني لا أجد لها العذر في عدم البدء به منذ تأسيسها؛ لأنها أهدرت الكثير من الوقت في مطاردة قضايا بناءً على بلاغات، وللأسف هي عاجزة حتى الآن عن أن تجد لها آلية تسرع فيها من الاستجابة لتلك البلاغات. وأخشى ما أخشاه أن تتحول نزاهة مع الوقت - إن لم تكن قد تحولت - دون أن تشعر إلى وزارة؛ وبالتالي فعليها أن تنتبه من أن يتسلل الفساد إليها، ويضرب بأطنابه في جنباتها.. وما نداءات مجلس الشورى لنزاهة للرد على استفسارات المجلس إلا جرس إنذار بأن هناك خللاً في منظومة نزاهة؛ وعليها أن تنتبه لذلك قبل فوات الأوان، وقبل أن تضيع الفرصة الكريمة التي أُتيحت لها لتعمل بنظام مالي وإداري مستقل كما ضيعت الصيف اللبن، وعندها لن يفيد التحسر والبكاء على اللبن المسكوب.

أخبار قد تعجبك

No stories found.
صحيفة سبق الالكترونية
sabq.org