أوقفوا المطبلين!!

أوقفوا المطبلين!!

لسنا بحاجة (في هذا الوقت تحديدًا) لطبول تقرع، وصيحات تطلق، وألسنة زائفة تدلق مديحًا مبالغًا فيه حد التأذي لمن يسمع أو يقرأ.. لا نريد أن نصنع أبراجًا عاجية، ثم نندب حظنا حين لا يمكننا الوصول لصاحب البرج!

فما يكاد أي مسؤول جديد يخطو عتبة دائرته حتى تنهال المدائح، وتدبج القصائد، وترتجل الكلمات في وصفه، وكيل المدائح لعقليته (ومفهوميته)، واستحقاقه للمكانة التي وصل لها بعرق جبينه! وإن كان كذلك فلن تفيده تلك الصيحات والمدائح، بل ستعيقه حتمًا.. وما أكثر ما تلبس عليه، خاصة حين تصدر من حاشيته وفريق عمله! التعزيز مطلب، لكن ليس بهذه المبالغة السمجة غير المستحقة، والتخدير المعطل؛ فيشعر المسؤول بأنه وصل وأنجز حتى قبل أن يبدأ! وقد تحصل على الرضا والسمعة التي يبتغيها (كقنبلة سريعة الاشتعال)!

ومن التطبيل الفعلي (إن جاز لي التعبير) حين يستقبل المسؤول كما لو كان مخلوقًا آخر، وهو يكاد يشرق من البخور، ويتعثر في السجاجيد الحمراء، ويغص بأطايب الطعام (وربما كلها قطة من الضعوف!).. فالذي كان بالأمس شخصًا عاديًّا من عامة الناس وجد نفسه غير عادي فجأة، يبعدون الناس عنه، ويفسحون طريقه.. ولا أدري إن كان يمكن أن يمشي في الشارع مثل سيرته الأولى أم لا! في حين تجد الأجانب يمارسون حياتهم كما كانوا، والمسؤول مثل أي موظف آخر.

من أكثر ما يغيب عنا أن المديح له آدابه، وصاحبه محاسَب في مصداقيته وتزكيته لصاحبه، فكيف إذا كان للمسؤول الذي يكون الحساب له مضاعفًا، حين يحسب في قائمة التزلف والوصول السريع لقلب وجيب صاحب الكرسي!

لما أثنى رجل على آخر عند رسول الله - صلى الله عليه وسلم - انتهره قائلاً "ويحك، قطعت عنق صاحبك"، ثم قال عليه الصلاة والسلام: "إن كان أحدكم مادحًا أخاه لا محالة فليقل: أحسب فلانًا ولا أزكي على الله أحدًا، حسيبه الله إن كان يرى أنه كذلك". ودققوا كثيرًا في قوله عليه الصلاة والسلام "إن كان يرى أنه كذلك"!! فما بالكم وهو (أي المادح) يعرف أنه مبالغ أو كاذب؟!!

فليت المطبِّل يعلم أنه يغرِّر المسؤول، ويصيبه بالغرور، وينفخه كثيرًا.. وهو وإن طربت نفسه لذلك (يعلم كذب المادح)؛ فيحتقره حتمًا، ويفقد احترامه له؛ فوراء مديحه مبتغى يريده، ومنزلة يسعى للوصول إليها عن طريقه، وقد تكشف له المتزلف في تسلقه بسلم كلماته ومدائحه؛ ليصل إلى هدفه بلا تعب أو جهد، كما أنه سيؤثر على الصادقين الذين لا يريدون أن يمدحوا بلا وجه حق؛ فقد يناصبهم المسؤول أو المدير العداء، أو يقع في نفسه منهم ما يجعلهم مستبعدين من الميزات والترقي!

لكن إذا استبدل (سعادته أو معاليه) فما أسرع ما تطويه ذاكرة المادح، وتستلم الجديد، ويقرع له الدفوف، ويلفت له الانتباه (وكأنه يقول يا أخي أنا هنا)، ويخلع عليه الألقاب والصفات القيمة والثمينة معطيًا نفسه مبررًا (إن كان يحتاج طبعًا)؛ ليسلك الطريق له، ويمهد الوصول لمبتغاه؛ ليربح في سوقه سريعًا.

وبين هذا وذاك هناك من يفرح بزلة المسؤول (ولو كانت كلمة) كما يحدث في صحافة المواطن عبر وسائل التواصل الاجتماعي. وكم منا من تلقف زلة أحدهم، وفسر النوايا، ولوث السمعة، حتى استوحش البعض من الحديث المباشر للناس!

لذلك النقد الهادف الذي في مكانه مهم حين يكون بغرض التقويم وإصلاح الأخطاء والتناصح، وليس التندر والضحك والتشفي.

دعوهم يعملون بهدوء، ويتذوقون لذة إنجازهم بعد العمل والجهد، فإن جاء مديح بعد هذا يكون مستحقًا بكل تأكيد، وبلا اشمئزاز من السامع والعارف! فليكن الثناء متأخرًا ومتوقفًا على حجم العمل والإنجاز، ومستحقًا على الأقل.. أعطوا المسؤولين فرصة الشعور بالمسؤولية، والخوف من الكرسي، والمحاسبة التي تنتظرهم، وأنهم بين تاريخ يحفظ إنجازاتهم وعثراتهم وسلوكهم، وذاكرة مؤقتة ما أسرع ما تلفظهم لأرشيف النسيان! والخوف الأكبر محاسبة الله تعالى لهم.

أما المطبلون فليت لدينا جهة تحاسبهم (وقد غاب عنهم حساب الله تعالى)؛ لمنع الإفساد والتشويش وتكدير الشفافية؛ فمن مقومات نجاحنا القضاء على هذه الظاهرة، وعدم استمراريتها، وكسر طبول المطبلين.

أخبار قد تعجبك

No stories found.
صحيفة سبق الالكترونية
sabq.org