لم يحظ مهرجان ثقافي باهتمام محلي وإقليمي ودولي في منطقة الشرق الأوسط، مثلما يحظى المهرجان الوطني للتراث والثقافة "الجنادرية"، الذي يترقبه الملايين في المملكة والمنطقة العربية؛ لمتابعة جديدة، والتعاطي مع فعالياته الثقافية والتراثية المختلفة، في أجواء يمتزج فيها الحاضر بالماضي بتناغم رائع، يشير إلى النقلة التي حققها الإنسان السعودي في سنوات قليلة، مع التأكيد في الوقت نفسه على أن هذا الإنسان ما زال يعتزّ بتاريخه وتراثه وثقافته العربية.
وينظر المواطنون إلى المهرجان على أنه مناسبة تاريخية وطنية في مجال الثقافة، كما أنه مؤشر عميق على اهتمام قيادة المملكة بالتراث والثقافة والتقاليد والقيم العربية الأصيلة.
30 نسخة
وعلى مدى 30 نسخة سابقة وخلال 37 عاماً مضت وسط الزحام، استطاع المهرجان أن يجسد ملامح التراث السعودي، النابع من أعماق بيئة الجزيرة العربية، لذا لم يكن غريباً أن يكون المهرجان من أهمّ المهرجانات التي ينتظرها الشعب السعودي وسكّان دول الخليج العربي عاماً بعد آخر، ويحافظ المهرجان على معنى العروبة، ويعزز أهمية التّراث الوطني.
وتنطلق فعاليات النسخة الـ 31 اليوم الأربعاء، برعاية خادم الحرمين الملك سلمان بن عبدالعزيز آل سعود -يحفظه الله- بحضور حشد كبير من الأدباء والمفكرين من مختلف دول العالم. وتؤكد رعاية خادم الحرمين الشريفين لهذا الحدث الأهمية القصوى التي توليها قيادة المملكة لعملية ربط التكوين الثقافي المعاصر للإنسان السعودي بالميراث الإنساني الكبير الذي يشكّل جزءاً كبيراً من تاريخ البلاد.
وكانت بداية انطلاق مهرجان الجنادرية في 24 مارس من عام 1985م الذي صادف عام 1405 للهجرة، ويتمّ افتتاحه مرةً كل عام في العاصمة الرّياض، تحت رعاية وتنظيم وزارة الحرس الوطني، وسميّ بـ"الجنادرية" نسبةً إلى قرية الجنادرية، التي تقام بها الفعاليات، وتقع في إحدى مناطق الرّياض، ويتمّ افتتاح الفعاليات في كل نسخة بحلول فصل الرّبيع، أي ما بين شهري مارس وأبريل من كل عام، ونفّذت اللجنة الثقافية في المهرجان 306 ندوات فكرية متخصصة، و69 محاضرة و63 أمسية أدبية وشعرية إلى جانب العديد من ورش العمل التي تقام بالتزامن مع دورات المهرجان في مختلف جامعات مناطق المملكة.
بداية الفكرة
وبدأت فكرة المهرجان ببذرة غرسها خادم الحرمين الشريفين الملك عبدالله بن عبدالعزيز آل سعود -يرحمه الله- حتى نمت وأثمرت، وأنتجت من مختلف صنوف الثقافة والتراث العربي الأصيل لتعرضها في قرية الجنادرية التي تضم الموروث الثقافي والمادي للإنسان السعودي والأدوات التي كان يستخدمها في بيئته منذ عقود، إضافة إلى سباق سنوي للهجن.
وأخذ الاهتمام بالمهرجان وزير الحرس الوطني الأمير متعب بن عبدالله واستمر بسقيا بذرة الراحل "عبدالله"، واكتسب المهرجان مع مرور الوقت ذيوعاً على المستوى الوطني والإقليمي بين عشاق هذه الرياضة العريقة، حيث يعدّ المهرجان أهم المناسبات الوطنية التي يمتزج فيها الحاضر بالماضي، وتتداخل فيه الأزمنة، بعروض متنوعة، ومن أهم أهداف هذا المهرجان تأكيد وتأصيل الهوية العربية الإسلامية بموروثها الوطني، ومن كل الجوانب للمحافظة عليها لتظل في عيون الجيل القادم ليفخروا به.
رعاية ملكية
وتحظى عروض مهرجان الجنادرية برعاية ملكية، وهو ما يشير إلى حجم الاهتمام الذي تحظى به هذه الفعالية لتكون الرابط الأهم بين الماضي والحاضر، ولتعزز رؤيتها بمدى أهمية التراث ليشكل تاريخ المملكة. ودعمت حكومات المملكة العربية السعودية المتعاقبة المهرجان وقدمت له الدعم الكافي، وذلّلت الصعاب وساهمت جميع القطاعات الحكومية بدعمه ومساندته، وتسابقت القطاعات المختلفة للمساعدة في التنظيم والمشاركة في مختلف النشاطات المقررة كل عام.
قرية الجنادرية
تضم قرية الجنادرية بين جنباتها، مجمعاً لكل منطقة من مناطق المملكة، يشتمل على بيت وسوق تجاري، ومعدات وصناعات ومقتنيات وبضائع قديمة، وما تشتهر به كل منطقة من المناطق من موروثها الثقافي والحضاري والعروض الشعبية. وتجسد القرية الشعبية نماذج استوحيت من البيئة القديمة للمجتمع السعودي مثل السوق الشعبي، ومجموعة من المعارض التراثية ومعارض المقتنيات التي شاركت بها الهيئات الحكومية والقطاع الخاص. وتقدّم فرق الفنون الشعبية بمناطق المملكة المختلفة للجمهور في قاعة العروض طوال أيام المهرجان جميع العروض الشعبية المعروفة في المملكة.
وتشارك دول مجلس التعاون لدول الخليج العربي في المهرجان الوطني للتراث والثقافة سنوياً.
ويستضيف المهرجان الوطني للتراث والثقافة سنوياً دولة شقيقة أو صديقة لتكون ضيف شرف المهرجان، تقدم ثقافتها وإنتاجها المادي والحضاري لزوار الجنادرية، حيث استضافت الجنادرية خلال دوراتها الثلاثين الماضية، كلاً من: تركيا، روسيا، فرنسا، اليابان، كوريا الجنوبية، الصين، الإمارات، ألمانيا، وتستضيف (الجنادرية 31) مصر ضيف شرفها لهذا العام.
سباق الهجن
وجاءت فكرة مهرجان الجنادرية من الرغبة الملكية السامية لتطوير مسابقات الهجن، التي تقام سنوياً، ولإكسابها الصيت الذي حصلت عليه الآن، وتعكس سباقات الهجن "الإبل" التي تتخلل المهرجان، الحياة الطبيعية لأهل البادية، فالجمال أو الإبل من الحيوانات التي يعتمد عليها الإنسان وهي جزء لا يتجزأ من الطبيعية الصحراوية؛ ولهذا السبب تمّ إطلاق سباقات الهجن؛ للتأكيد على أهمية الجمال وروح التنافس بين المتسابقين.
وقد أُنشئت في الجنادرية قرية تحتوي في بيوتها ومعارضها على متحف للتراث يعرض فيه الحلي القديمة والأدوات التي اعتاد الانسان قديماً في المملكة استخدامها في أمور حياته المختلفة قبل أكثر من 50 عاماً. ولذلك، فمن أهم أهداف المهرجان في المرتبة الأولى إبراز أفضل أوجه التراث الشعبي المختلفة، والتركيز على الحرف اليدوية والتي برع بها الإنسان في المملكة، حيث يتم عرض الحرف اليدوية والأكلات الشّعبية، والمنسوجات، والأشغال اليدوية وغيرها من أدوات التّراث في أجنحة خاصّة لكل منطقة أتت تشارك في مهرجان الجنادرية، مع الاهتمام بربط الحرف القديمة بما هو حديث لتتناسب مع العصر الذي نحياه اليوم.
وتقوم المؤسسات الحكومية والشّركات الخاصة بعرض ما لديها في مساحات مخصّصة للوفود المشاركة في هذا المهرجان، حيث تستفيد الشّركات من هذا المهرجان باعتباره فرصة كبيرة للوصول إلى شرائح معيّنة بعدد أكبر؛ لعرض المنتوجات الجديدة والحالية وكذلك الخدمات التي تقدّمها هذه الشّركات المشاركة.
الأوبريت الغنائي
ومن أبرز فعاليات مهرجان الجنادرية الأوبريت الغنائي، الذي يفتتح به المهرجان عادةً، وتركز كلماته تحديداً للتأكيد على معنى المهرجان، وتستمر مدّة الأوبريت الذي يقوم بأدائه عدد من الفنانين المعروفين لمدّة 45 دقيقة، ويتخلّله قيام الفرق الشّعبية بأداء لوحات غنائية مختلفة، وتجهيز صالات وأجنحة العروض؛ حرصاً على إظهار معنى التّراث الحقيقي للشعب السّعودي، وقد جاء إلغاء فقرة الأوبريت الغنائي هذا العام تقديراً لأبطال الحد الجنوبي، ولما تمرّ به الشعوب من أزمات في البلدان العربية الإسلامية.
ومن الفعاليات المهمة التي ينتظرها الكثيرون عند بدء مهرجان الجنادرية، ملتقى الشّعر والشّعراء، الذي يعد لبنة أساسية في الثقافة السعودية والعربية، وتحرص إدارة المهرجان على تخصيص مساحة لإبراز معنى الشّعر وتسليط الضوء أكثر على الشعّراء الذين يكتبون ويلقون الشّعر، وفي هذه المساحة الشّعرية تتمّ أيضاً استضافة ضيوف الشّرف من الشّعراء العرب الكبار من دول الخليج العربي.