أكد نائب وزير الشؤون الإسلامية والدعوة والإرشاد، الدكتور توفيق بن عبدالعزيز السديري، أن ترسيخ الأمن الفكري مسؤولية جماعية مشتركة، يتحملها الأفراد والمؤسسات والدول.. وبمقدار تكامل الجهود وتكاتفها تُحمى العقول والأفكار، وتُصان الحقوق وتحترم، ويسود الأمن والاستقرار.
جاء ذلك خلال محاضرته التي ألقاها بعنوان (آثار تحقيق الأمن الفكري) بعد صلاة مغرب أمس الخميس في جامع الإمام تركي بن عبدالله ــ رحمه الله ــ (الجامع الكبير) وسط مدينة الرياض، وذلك بحضور سماحة الشيخ عبدالعزيز بن عبدالله آل الشيخ، المفتي العام للمملكة رئيس هيئة كبار العلماء وإدارة البحوث العلمية والإفتاء.
واستهل الدكتور السديري محاضرته موضحًا أن استقامة الدنيا وسعادتها لا تحصل إلا إذا كان الإنسان آمنًا على نفسه، مرتاح القلب، هادئ النفس، لا يخاف من وقوع مكروه يهدد أمنه، أو ينتقص دينه، أو ينتهك حرماته، أو يستلب خيراته، أو يفرض عليه ما يتعارض مع دينه، وثقافته من أفكار، ومذاهب، وأخلاق.
وقال: "كان الأمن - ولا يزال وسيبقى - واحدًا من أهم المتطلبات الأساسية للحياة البشرية. وقد لا يبالغ من قال: إن الأمن هو المفترض الرئيس لكل نشاط من أنشطة الحياة الإنسانية".
واستشهد على هذا بآيتين كريمتين من كتاب الله ـــ جل وعلا ـــ، الأولى منهما هي قوله ـــ تعالى ـــ: {وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ اجْعَلْ هَٰذَا بَلَدًا آمِنًا وَارْزُقْ أَهْلَهُ مِنَ الثَّمَرَاتِ مَنْ آمَنَ مِنْهُم بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ۖ قَالَ وَمَن كَفَرَ فَأُمَتِّعُهُ قَلِيلًا ثُمَّ أَضْطَرُّهُ إِلَىٰ عَذَابِ النَّارِ ۖ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ} والأخرى هي قوله ـــ جل وعلا ـــ: {وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا قَرْيَةً كَانَتْ آمِنَةً مُّطْمَئِنَّةً يَأْتِيهَا رِزْقُهَا رَغَدًا مِّن كُلِّ مَكَانٍ فَكَفَرَتْ بِأَنْعُمِ اللَّهِ فَأَذَاقَهَا اللَّهُ لِبَاسَ الْجُوعِ وَالْخَوْفِ بِمَا كَانُوا يَصْنَعُونَ}.
وأبان أن الآيتين الكريمتين تظهران بوضوح الارتباط الوثيق بين الإيمان والأمن، مؤكدًا أن تحقيق الإيمان يحصل بأن تحقق الأمة ما خلق الله الخلق من أجله، وهـــو توحيــده ــــ جل وعلا ـــ، وامتثال أمره، واجتناب نهيه، وفق مراده ــــ سبحانه وتعالى ــــ باتباع منهج السلف الصالح من الصحابة، والتابعين، وأتباعهم بإحسان.
وشدَّد على أن الفكر في القرون المفضلة كان واحدًا ذا منهج واحد، هو اتباع سبيل المؤمنين الذي هو طريقهم في عقائدهم وأعمالهم.. مشيرًا إلى أن الفكر اليوم ذو شُعب شتى، واتجاهات متفرقة؛ فقد ظهرت فِرق وجماعات حزبية، تبث الشبهات المؤدية للانحراف عن المنهج الصحيح والصراط المستقيم.. وشهدت الساحة العالمية والإسلامية والعربية انحرافات عقدية، أدت إلى انحرافات فكرية خطيرة جدًّا، تهدد سلامة العقيدة، وصفاء المنهج، ونقاء الفكر.
وأوضح أن الانحرافات العقدية والفكرية تنذر بفساد الأرض، وشيوع قتل الأنفس المعصومة، والعدوان على الممتلكات المحترمة.. بل قد وقع بسبب هذه الانحرافات عدد من الاعتداءات والجرائم التي استهدفت أمن الناس في دينهم، وأرواحهم، وعقولهم، وأعراضهم، وأموالهم.
وأهاب الدكتور السديري بكل مسلم حيال تلك الانحرافات إلى أن يكون يقظ القلب، عالي الهمة، دائم البحث والنظر، موظفًا قدراته، باذلاً نفسه وطاقته، مسخرًا قلمه وفكره؛ للحفاظ على دينه وعقيدته سالمَيْن من كل انحراف، وأن يحافظ على أمنه وأمانه واستقراره من غائلة الأحداث، ومكر الأعداء.
وأضاف: إن أول ما صرفت إليه الجهود، وعنيت به العقول، واشتغل به أولو العلم والقلم، هو موضوع الأمن؛ فهو ضرورة لتوفير بيئة مناسبة للعيش والبناء؛ إذ يستطيع الأفراد ممارسة حياتهم، وحفظ حقوقهم، وأداء واجباتهم، وتحقيق أهدافهم وطموحاتهم.. وتتمكن الدولة من الارتقاء في مختلف المجالات، وعلى كل الصعد داخليًّا وخارجيًّا.. وبمقدار اختلال عنصر الأمن يأتي النقص، وتنتشر البدع والمحدثات، وتكثر في المجتمع الآفات الأخلاقية، والاجتماعية، والاقتصادية، والصحية، وغيرها.
وتابع: إن أمن العقول لا يقل أهمية عن أمن النفوس والأموال؛ فلصوص العقول أعظم خطرًا وأشد فتكًا من لصوص البيوت والأموال. وإن تحقيق الأمان للنــــاس مــــن الانحرافـــات الفكريـــة ـــ وهـــو ما اصطلح عليه اليوم بـ (الأمن الفكري) ــــ من أهم ما عنيت به الشريعة؛ لأنه يُعنى بسلامة عقول وأفكار أفراد المجتمع التي تُعد أهم مرتكزات الأمن بجميع أنواعه. مشددًا على أن الشريعة وجهت العقول والأفكار لصيانة الضرورات الخمس الكبرى، وهي: (الدين، والنفس، والعقل، والعِرض، والمال)، وحرمت الاعتداء على شيء منها؛ لأنها خطوط حمراء؛ لا ينبغي التعدي عليها.
وأردف قائلاً: إن الشريعة حرصت على تحصين العقول كذلك من تطرف الفكر، وهو: العمليات الممنهجة التي تصدر من أشخاص أو جماعات أو فرق هادفة ــــ من خلال التلاعب بعقول الأفراد ــــ إلى تغيير أنماط معاييرهم، وإعادة تشكيل اتجاهاتهم وسلوكهم. كما وضعت الشريعة قواعد عامة في التعامل مع الأساليب المستخدمة في الغلو والتطرف المؤدي لانحراف الفكر؛ فأمرت في باب الأخبار بالتيقن من صحتها، والتثبت عند الشك فيها، وعدم الاستعجال منعًا من الوقوع في الندم.
كما أن الشريعة أمرت في باب المعلومات ـــ أيًّا كان نوعها ـــ بالتأكد من صحة المعلومة، وأخذها من المصادر الموثوقة، ونهت نهيًا شديدًا عن القول بلا علم. موضحًا أن وسائل الإعلام والاتصال المغرضة من أشد النوافذ التي يمـــارس من خلالهــا حرف الفـــكـــر عن جـــادة الصـــواب. مشيرًا إلى أن الواقع أثبت فيما سمي بــ (الربيع العربي) خطر الإعلام، وأثره الفتاك في توجيه العقول، ونشر ثقافة الثورات التي لا تزال بعض المجتمعات تجني مر حصادها إلى يومنا هذا.
وتطرق الدكتور توفيق السديري لآثار تحقيق الأمن الفكري على الفرد، والأسرة، والمجتمع، والدولة والأمة.. فأبان أن آثار تحقيقه على الفرد تبرز في تحقيق العبودية لله ــــ عز وجل ـــ، وتحقيق الوسطية لدى الفرد، وسلامة فكره من الانحراف والاضطراب، وتحقيق الاطمئنان القلبي والنفسي للفرد، وحمايته من الغرور والتعالم، ومشاركته مع المجتمع إيجابيًّا، وتخلصه من التبعية لغير الكتاب والسنة، وتحقيق الاحترام الأسري والتقدير الاجتماعي.
أما آثار فقدان الأمن الفكري على الفرد فهي: ضلال دينه، وانحراف العقل والفهم، وسلوك مسلك أهل الغلو، والوعيد الشديد من الله ـــ تعالى ــــ له، والشذوذ عن جماعة المسلمين، وتعريض الفرد نفسه لموتة الجاهلية، وبراءة النبي ـــ صلى الله عليه وسلم ـــ منه، والشعور بالخوف والقلق، ورق التبعية، والشعور بالوحدة وفقد الاحترام، وإهدار طاقة الفرد وقدراته، وتعريضه نفسه لإهدار دمه، وتحمله إثم مَن سار على فكره ونهجه.
وعن آثار تحقيق الأمن الفكري على الأسرة قال نائب وزير الشؤون الإسلامية: إنها تتجلى في الحياة الأسرية السعيدة، وتحقيق التلاحم الأسري، والتربية الصحيحة. وينتج من فقدان الأمن الفكري ما يأتي: زعزعة الأمن الأسري، وفقدان التربية الصحيحة، وحصول النزاع والشقاق بين أفراد الأسرة، وقطيعة الأرحام، وتخلي رب الأسرة عن إعالة أسرته، وانهيار الأسرة، ووقوع الطلاق أو التفريق بين الزوجَيْن.
أما عن آثار تحقيق الأمن الفكري على المجتمع فواصل قائلاً: إنها تتضمن تحقيق عمارة الأرض، وتحقيق عبادة الله، ولزوم الجماعة، والسلامة من الفُرقة، وحماية المجتمع. وينتج من فقدانه: الفُرقة الفكرية، وذهاب الألفة، والاعتداء المتعدي، وإضعاف هوية المجتمع، وإنهاك قوى المجتمع البشرية، وتشويه صورة الاستقامة عند عامة الناس، وتألم المجتمع من آثار الانحراف الفكري.
وعن آثار تحقيق الأمن الفكري على الدولة استرسل قائلاً: تحقيق طاعة الله ورسوله وطاعة ولاة الأمر، وسلامة تصرفات الرعية، وانتظام أمور الدولة وأحوالها، وإشاعة الأمن والاستقرار، وتحقيق التعاون، وسد منافذ الغزو الفكري، وتحقيق الاستقرار السياسي للدولة، والنصر على الأعداء. وينتج من فقدانه: عصيان الله تعالى ورسوله ومعصية ولاة الأمر، وظهور المنكرات والمفاسد العظيمة، وانتشار الفوضى، وحدوث الخوف والهرج والمرج، وإضعاف قوة واقتصاد الدولة، وزعزعة الاستقرار السياسي للدولة، وتمزيق وحدة الدولة إلى فِرق حزبية، وإذكاء الصراعات الطائفية داخل الدولة، وزرع الشحناء بين الحاكم والمحكوم في الدولة.
واستطرد الدكتور توفيق السديري يقول في سياق استعراضه آثار تحقيق الأمن الفكري: "أما عن آثار تحقيق الأمن الفكري على الأمة فهي: حفظ الدين، وتحقيق مبدأ التعاون بين الأمة، وتآلف الأمة وبقاء هويتها وهيبتها في نفوس الأعداء، وتأثير الأمة في غيرها من الأمم. ويترتب على فقدان الأمن الفكري لدى الأمة: ظهور بدعة التطرف والغلو، واختلال الأمة في شؤونها الجنائية والاقتصادية، واستغلال أعداء الأمة للانحراف الفكري، وإضعاف وحدة الأمة، وانشغال الأمة بفتن الانحراف الفكري، والتضييق على المسلمين في العالم".
وانتهى نائب وزير الشؤون الإسلامية إلى القول: "أما آثار تحقيق الأمن الفكري على غير المسلمين فهي: سلامة أرواحهم وأعراضهم وأموالهم، وشعورهم بالأمن، وإظهار الإسلام في صورته الحقيقية، ووصول الإسلام لغير المسلمين. وينتج من فقدان الأمن الفكري على غير المسلمين: تشويه صورة الإسلام الصحيحة، وعرقلة مسيرة الدعوة، والتنفير من الدين، والخيانة والغدر، والجناية على الأبرياء، وتخويف الآمنين، وعدم شعورهم بالأمن، وقتل المستأمنين والمعاهدين".
وبعد انتهاء الدكتور توفيق السديري من محاضرته أجاب عن عدد من أسئلة الحضور الذين تابعوا المحاضرة.