السينما.. شبرًا بشبر.. وذراعًا بذراع!!

السينما.. شبرًا بشبر.. وذراعًا بذراع!!
تم النشر في

بلا شك، إن موضوع السينما أحد المواضيع الحساسة التي تظهر من حين لآخر على السطح الاجتماعي والإعلامي، ويتبادل فيها بعض أطراف القضية الاتهامات للطرف الآخر.

ولعلي في هذا المقال أناقش القضية من جوانب ذات أبعاد، أزعم أنها منطقية، وبناء على أرضية مشتركة، يتوافق معظمنا فيها، سواء كنا مؤيدين أو معارضين.

بداية، دعونا نؤصل للموضوع من منظور أن السينما "أداة"، وليست محتوى في ذاتها، بمعنى أنها كالوعاء الفارغ الذي لا تعرف ضرره من فساده إلا بعد أن تتيقن من نوعية ما سيُصبُّ فيه، ويوضَعُ بداخله. فالوعاء يمكن أن تضع فيه أُمَّ الكبائر، أو لبنًا خالصًا سائغًا للشاربين.

ومن ثَمَّ، فاستخدام السينما يمكن أن يجد القبول عند كلا الطرفين إذا ما عرضنا محتوى يتوافق مع قيمنا وثوابتنا. وهنا لا أعتقد أن أحدًا من كلا طرفي النزاع يعارض أن السينما في هذه الحالة حلال، لا حرمة فيها، إذا ما ضمنا سلامة بيئة دور السينما من أي منغصات أخرى.

نأتي لتساؤل منطقي آخر: فما هو حجم الأفلام المتوافرة في العالم العربي أو السوق العالمية التي تتوافق مع قيمنا؟ وهنا، دعونا نخرج من خلاف الحكم الفقهي في الموسيقى، ولنأخذ جدلاً ببعض الآراء الفقهية المرجوحة التي تجيز سماع الموسيقى وفق ضوابط محددة، ونعيد التساؤل السابق نفسه: ما هو حجم الأفلام المتوافرة بالموسيقى وتتوافق مع قيمنا؟

أعتقد أن الإجابة واضحة ولا لبس فيها؛ فسيرتد البصر خاسئًا وهو حسير للإجابة عن ذلك؛ فتلك الأفلام نادرة كندرة حجر الألماس في الصخور؛ وبالتالي من غير المعقول أن نستثمر مئات الملايين في بناء دور للسينما من أجل بضعة أفلام للعرض!!

إذًا، فماذا يريد المطالبون بدور السينما أن يُعرَضَ على أفراد الأسرة السعودية؟ هل هي أفلام الحب والعشق والخيانة المصرية، وشيطنة قيم العفة والشرف؟ إذ لا تكاد تجد فيلمًا منها دون ظهور راقصة تُظهر أكثر مما تخفي من جسدها!! وهي الأفلام التي شوَّهت كثيرًا صورة الشعب المصري الأبي المكافح.

أم يراد للمجتمع السعودي مشاهدة أفلام "الأكشن" الأمريكية، وهنا حدِّث ولا حرج؛ فهي مليئة بتعاطي المخدرات والتبغ والكحول والعنف والقتل، وتعظيم ثقافة الانفلات الأخلاقي في العلاقة بين الرجل والمرأة، ورمي قيم الحفاظ على "العِرْض" على قارعة الطريق!! هذا عدا أفلام الهياط الهندية، التي لا تكتمل حبكتها دون التغنج والغزل والهيام بين الحبيب وحبيبته مع المشاهد "الساخنة" المحببة لصناع مثل تلك الأفلام.

أما الإنتاج الفني الخليجي فمعظمه جمع أسوأ ما لدى تلك الأفلام؛ ليُخرج لنا منتوجًا معوقًا مشوهًا أبله!!

وبلا شك، إن خاصية "تطبيع" تلك السلوكيات في المجتمعات المسلمة تكاد تتفجر من كل حدب وصوب من تلك الأفلام وناشريها!!

نعم، هناك بعض القيم الجميلة والرائعة في بعض تلك الأفلام، وخصوصًا الغربية منها، لكن جميع تلك الأفلام يطغى عليها في جانبها الآخر الصدام مع قيمنا وثقافتنا مباشرة. وهي كالخمر التي فيها منافع للناس، لكنَّ إثمها أكبر من نفعها.. ولا أعتقد أن أحدًا يجادل في ذلك إلا جاهل، أو مكابر، أو صاحب هوى..

إنَّ استساغة وتبلُّد الحس لدى البعض تجاه ما يشاهده في تلفزيون منزله، واعتياده عليه، لا يعني بأي حال من الأحوال تقنين ذلك، وتوجيه الناس لمشاهدته، واستثمار مئات الملايين فيه، واعتباره ترفيهًا "بريئًا". الكثير منا يودُّ أن يجد دورًا للسينما؛ ليذهب إليها؛ ليرفِّه عن نفسه وأسرته، لكن ليس على حساب مبادئنا وثوابتنا.

إذًا ما الحل؟ الحل يمكن صنعه متى ما توافرت الإرادة الحقيقية لذلك؛ فلدينا نماذج لأفلام ودراما رائعة ومتميزة، تتوافق مع ثقافتنا، وكسبت جماهيرية عالية، فأين شركات صناعة الأفلام والدراما منها؟ ولماذا التخاذل تجاهها؟ ولِمَ لا تجد دعمًا حكوميًّا لها؟

ما زالت الذاكرة تتأمل بكل عزة وشموخ أفلامًا مثل "عمر المختار"، أو مسلسلات مثل "عمر بن الخطاب" من إنتاج إم بي سي (MBC) . أما مسلسل أرطغرل التركي فهو قصة أخرى وحدها في تعزيز قيم البذل والعطاء والثبات على الحق والعدالة والعزة التي يعيشها المسلم في حياته.. فأين نحن من مثل هذه النماذج الناصعة؟ نعم، هناك بعض المخالفات الشرعية أو التاريخية في تلك المنتجات، لكن يمكن معالجتها بكل يُسر وسهولة متى ما تكاتفت الجهود بين المنتجين والعلماء.

المخجل والمحزن في آن معًا أن معظم شركات صناعة الأفلام والدراما العربية انساقت وراء النموذج الغربي في الإنتاج، وتتبعت ذلك "شبرًا بشبر" و"ذراعًا بذراع".. وجيّشت خيلها ورجلها؛ لتلهَمَ من ثقافة العري، واستعباد جسد المرأة، ونشر ثقافة الانحلال الأخلاقي، وخلخلة النسيج الأسري.. وهو ما يتطابق تمامًا مع الحديث النبوي "حتى لو سلكوا جُحْر ضب لسلكتموه".

هيئة الترفيه أمام تحدٍّ كبير في افتتاح السينما نتيجة ذلك القصور، وعليها أن تعي دورها جيدًا، وأن تتجاوز مرحلة "القص واللزق" في الترفيه؛ لتعمل على صناعة الترفيه الذي يمثل قيمنا وثقافتنا بطرق مبتكرة ومتجددة. نعم، الطريق طويلة في ذلك، لكنها واضحة وجلية، وتحتاج إلى مزيد من الطموح والتحدي والإبداع.

وقفة:

زيارة رئيس الهيئة لسماحة المفتي حول موقفها تجاه السينما كانت موفَّقة للغاية، ودلالة على روية وحنكة؛ فنحن بحاجة ماسة لما يحافظ على النسيج الاجتماعي، وعدم الصدام مع ثقافة وقيم المجتمع، وخصوصًا في ظل الوضع الراهن والتحديات الجسيمة التي تواجهها السعودية، والتي تتطلب عدم استفزاز شريحة واسعة من المجتمع، والحفاظ على تماسك أطيافه.

أخبار قد تعجبك

No stories found.
صحيفة سبق الالكترونية
sabq.org