كغيرها من المدن الكبرى في العالم، تعيش الرياض انطلاقات التطوير، والركض اليومي نحو التمدن والتحضر، وعلى هامش هذه الانطلاقات تظل الأسرة تتلقى آثار العصرنة المنفتحة على كل الثقافات، والصدمات الحضارية المتضاربة، والانشغال الرهيب برتم الحياة المتسارع، وزادت أرقام الطلاق، واتسعت دوائر الإعراض عن الزواج، وباتت المشكلات الزوجية تهدد كيان الأسرة، وتشغل الإمارات والمحاكم والشرطة والتحقيق والادعاء العام ودور الحماية.
وفي مقابل ذلك برزت فكرة "مراكز الإصلاح الأسري"، ومكاتب المصالحة، وأيدتها قرارات مجلس الوزراء، وأنظمة وزارة العدل ووزارة العمل والتنمية الاجتماعية.
مراكز جديدة
وانطلاقاً من إدراك الجدوى الكبرى لدور الإصلاح الأسري في حل المشكلات والمنازعات داخل العائلة الواحدة، وبين الأسر، من خلال دراسة مخرجات المراكز القائمة في جدة والأحساء والدمام والقصيم وتبوك والطائف وغيرها، التي تتراوح نسبة نجاحها بين 52 -80%، افتُتحت عشرة مراكز للإصلاح الأسري في منطقة الرياض، بموافقة وكالة التنمية الاجتماعية بوزارة العمل والتنمية الاجتماعية، حملت رايتها ورعت تأسيسها أوقاف الشيخ عبدالله بن تركي الضحيان -رحمه الله- وبإشراف استشاري من مركز بيت الخبرة للبحوث والدراسات الاجتماعية الأهلي.
الخلافات الأسرية
ويقوم المشروع على أساس إنشاء وتشغيل عشرة مراكز للإصلاح الأسري في عشر لجان للتنمية الاجتماعية بمدينة الرياض؛ بهدف معالجة حالات الخلاف الأسري، بالسعي في التوفيق بين أطرافها بالطرق الودية، وفق الأحكام الشرعية، والأساليب العلمية المهنية في التواصل وأنماط الشخصية، وذلك للحد من نسبة الطلاق، والكدر الزواجي، وكذلك الحد من انحراف الأولاد، والعمل على تخفيف الضغوط النفسية والتوترات التي قد تؤدي إلى كوارث صحية أو أسرية، إلى جانب نشر ثقافة العفو والتغافر والإصلاح بين الناس.
وأوضح المشرف العام على مركز بيت الخبرة للبحوث والدراسات الاجتماعية الأهلي الدكتور خالد بن سعود الحليبي أن هذا المشروع يأتي في إطار ما يلقاه قطاع التنمية الاجتماعية من اهتمام وعناية بالغة من لدن حكومتنا الرشيدة، ممثلاً في وكالة التنمية الاجتماعية بوزارة العمل والتنمية الاجتماعية، وهو استمرار لما يقدم من مبادرات اجتماعية نوعية في ظل تفاقم حالات الخلافات الأسرية، إلى جانب حاجة المجتمع بكل فئاته إلى من يشاركهم في حل مشكلاتهم بشكل علمي مؤصل، ومنطلق من خبرة عالية تضمن بإذن الله الوصول بهم إلى الحل.
وأكد الدكتور "الحليبي" أن عدم وجود هذا المشروع بلا شك سيترك الفرصة سانحة لممارسات سلبية من جهات أو أفراد غير مأمونين يقومون بهذا الدور بشكل سلبي.
سرية تامة
وأشار إلى أن عمل المراكز العشرة يتحدد في استقبال الحالات إما مباشرة؛ بحيث يتقدم صاحب الحالة للمركز، ويعرض ما عنده من مشكلات، أو بالتحويل إلى الجهة المختصة، في سرية تامة، في غرف مخصصة، ويعمل على الوصول إلى الحلول التوافقية بين المتخاصمين، عن طريق مصلحين مدربين على أحدث الوسائل والأساليب، باستخدام برنامج حاسوبي مميز أُعدَّ خصِّيصًا لهذه المهمة؛ ليأخذوا بأيدي المستفيدين إلى بر الأمان الأسري، مبينًا أن أبرز الجهات التي تُستقبل منها الحالات عادة في مثل هذه المراكز: هي الإمارة وما يتبعها من محافظات ومراكز، والمحاكم الشرعية، وجمعية حقوق الإنسان، ومراكز الشرطة، وهيئة التحقيق والادعاء العام، ودور الحماية، والجمعيات الخيرية، ودور الأحداث والرعاية النسائية (الإصلاحيات للذكور والإناث)، وجهات أخرى.
إحصاءات موثقة
وبين المدير التنفيذي لمركز خبرة الدكتور سامي بن محمد النعيم أن هناك إحصاءات موثقة من جهات حكومية وأكاديمية تؤكد أن نسبة الطلاق في المملكة تتراوح من 7% إلى 48% حسب ما ورد في الكتاب الإحصائي لوزارة العدل، وأن أكثر من 60% من الأطفال مهملون تربويًا بناء على ما جاء في دراسة ميدانية أعدها بتكليف من وزارة الشؤون الاجتماعية فريق علمي متخصص بقيادة الدكتور عبد الله بن عبد العزيز اليوسف، بعنوان: ظاهرة العنف في المملكة العربية السعودية.
كما أوضحت أوقاف الشيخ عبدالله بن تركي الضحيان، أنها اضطلعت بتأسيس هذا المشروع الممتد على خارطة الرياض من الجنوب إلى الشمال، ومن الشرق إلى الغرب، لإيمانها الكامل بأن استقرار الأسرة هو استقرار للمجتمع، وأمن للوطن، فمن رحم الأسرة المبدعة يتخرج المبدعون والعلماء، وفي هذا ربح عظيم للوطن والأمة، ومن دهاليز بعض الأسر المفككة يتسرب المجرمون والمتطرفون والمنحلون والتائهون بلا أهداف، وفي ذلك خسارة فادحة على الوطن، والأمة بأسرها، وقد اختارت الأوقاف مركز خبرة ليقدم استشارة علمية، ويبني دليلاً مهنياً، ويدشن على الشبكة العالمية برنامجاً مطوراً لإدارة عمليات الصلح، ويشرف على الإنشاء، من خلال الاتفاقات الموقعة مع لجان التنمية الاجتماعية العشر في: أحياء: عرقة، والسويدي، والبديعة، والعزيزية، والنظيم والجنادرية، والريان، وبدر، والشفا، والوادي، وشبرا، والنسيم. والتي تعد الجهات المنفذة للمشروع، من خلال افتتاح مراكز الإصلاح الأسري فيها.
الجدير بالذكر أن مركز خبرة -وهو مركز غير ربحي- قد نسق مع عشر لجان للتنمية الاجتماعية في مدينة الرياض، مراعيًا موقعها لتعميم الاستفادة من خدمات المراكز، حيث وقع هذه الاتفاقات ممثلو لجان التنمية الاجتماعية المذكورة.
وشكر المشرف العام على مركز خبرة وزارة العمل والتنمية الاجتماعية على دعمهم توقيع هذه الاتفاقات المباركة التي كانت برعاية وكيل الوزارة المساعد الدكتور حماد بن علي الحمادي، وبحضور مسؤول التنمية الأسرية في الوزارة أحمد القاضي، والذي يمثل حرص الوزارة على دعم هذه المشروعات الأسرية الخيرة، داعيًا الله العلي القدير أن يجزل المثوبة لأوقاف الشيخ عبدالله بن تركي الضحيان -رحمه الله- على إنفاقهم ورعايتهم الكريمة لهذا المشروع المبارك.