يقال إن المثقف والصحفي الحقيقي ابن عصره، وهو حصيلة ما اكتسبه من ثقافة ذلك العصر وأحداثه ومواقفه وتحولاته.. وبمقدار الجدية والنزاهة والجرأة في استيعاب كل ذلك؛ يتمكن من التأثير في الآخرين ووضع بصمته المميزة.. وتركي السديري، الذي انتقل إلى رحمة الله تعالى صباح اليوم الأحد؛ هو ابن عصره بجدارة، وذو بصمة فريدة، وأحد أعمدة الصحافة السعودية المؤثرة والأبرز فيها منذ أكثر من 5 عقود، انغمس في قضايا مجتمعه ووطنه؛ مدافعاً عنه في المحافل الرسمية والأوساط الإعلامية في أوقات عصيبة من منعطفاته التاريخية، مساهماً بكتاباته القيمة في التفاعل والتأثير الإيجابي على مختلف مسارات العمل الإعلامي المحلي والثقافي والتنموي بأبعاده المختلفة، بممارسة صحفية مهنية احترافية راقية، وتفهّم واعٍ لدوره ومتطلباته؛ مترأساً لعقود طويلة صحيفةَ "الرياض" التي صنع منها صرحاً إعلامياً بارزاً ذا تأثير ومتابعة كبيريْن في الرأي العام المحلي والعربي.
عندما سألته "سبق" في حواره الأخير قبل أن تتدهور حالته الصحية، عن ماذا بقي من الصحفي تركي السديري بعد أكثر من ٥٠ عاماً من الكتابة والصحافة والتفاعل اليومي مع الناس، كان جوابه بسيطاً ومعبراً: "كما بدأ، تبقّى منه القارئ والمتابع للأحداث؛ لكن الفرق أن تركي الشاب كانت تنقصه الخبرة والدراية، وتركي المسنّ اليوم كأنه يعرف إلى أين تتجه الأحداث".
وبسؤاله عن رأيه السابق في أن "الصحافة مثل الدنيا واسعة مغرية وغامضة، مهنة فيها إيهام الخلود ونكد المفاجآت، فيها وقار الأكاديمي وابتذال الملاهي الليلية"، قال: "نعم لا تزال، وكل يوم، ومع تطور وسائل التواصل والانتشار؛ فإن عبارتي هذه تتأكد".
ونحن نودّع ملك الصحافة السعودية تركي السديري، نودّع في حقيقة الأمر رجلاً ذا هيبة طاغية ومكانة رفيعة، عاش في حقبة مهمة من تاريخنا الحافل بالأحداث والمواقف، شارك في تاريخ صحفي سعودي عريق بناه رجال مخلصون لوطنهم، مؤمنون برسالتهم الصحفية، وبسعيهم الجادّ نحو تطور المجتمع والمساهمة في تكامل أركان الدولة الحديثة.
في ذات الحوار قال لـ"سبق" عن طفولته: "ليس فيها ما يُذكر، ولم تُتَحْ أمامي آفاق للشغب أو للأحلام؛ فما كان هناك سوى خيالات وأمانٍ بعيدة الوصول.. أنا ابن قرية في الأساس؛ لذلك فأنا عاشق للزراعة والنخيل مثل الكثير من أبناء جيلي، الذين انتقلوا من قراهم إلى الرياض في طفولتهم، وحينها لم تكن الرياض متقدمة كثيراً عن القرية، كانت قرية أخرى كبيرة ومختلفة. كنت أعيش مع أمي -رحمها الله- بإمكانات جداً محدودة، ولا أرى آفاقاً تشجعني، كنت يتيماً، وإخوتي يعملون في مدن بعيدة، ولم أعرف عنهم شيئاً حتى بلغ عمري ١٣ عاماً؛ حينها تَعَرّفت إلى أخي الذي كان بمثابة والدي محمد، رحمه الله".
رحم الله تركي السديري رحمة واسعة، وأسكنه فسيح جناته؛ فقد كان صحفياً لامعاً ساهم بمقالاته الجريئة والصريحة، ومواقفه الشجاعة، والدور النقدي الذي كانت توليه صحيفة الرياض عندما كان رئيساً لتحريرها؛ في الوقوف بقوة أمام محاولات البعض لجرّ المجتمع نحو الأزمات الفكرية والمعارك الجانبية، دون أن ينتقص من دور الكثيرين الذين ساهموا أيضاً بأدوار وفعاليات إيجابية مهمة.
ويكفي أن نعرف مدى حبه وتعلقه في جوابه المليء بالعاطفة نحو مهنة الصحافة، عندما سأل: "ألا تزال تشعر بالحب لمهنة أخذت منك أكثر من نصف عمرك حتى الآن؟"، كان رده: "ليس الحب؛ بل الحياة، الصحافة بالنسبة لي حياة، وليست فقط مهنة، الصحافة تَواصل واكتشاف وابتكار، هي بساط الريح، وهي صندوق العجائب".
أما أمنياته الثلاث التي كان يطلبها؛ فباح بها لـ"سبق": أؤمن بالله القدير، وأسأله أولاً أن يحفظ بلادنا السعودية ويجعلها من خيرة الأمم، وثانياً أن يعود السلام للعالم العربي، وتعود الشرعية والتنمية لسوريا واليمن وكذلك العراق، وأن تختفي العصابات الإرهابية مثل "داعش" و"القاعدة" من الخريطة العربية، وآخر الأماني أن يوفق الله أبنائي في حياتهم وخدمة وطنهم".
رَحِمَ الله عميد الصحافة السعودية تركي السديري، رئيس تحرير صحيفة "الرياض"، ورئيس هيئة الصحفيين السعوديين، ورئيس الصحافة الخليجية، وأحد أبرز الصحفيين العرب خلال الـ50 عاماً الماضية.