تشهد ساحتنا الفكرية مناقشات وحوارات وسجالات وخلافات في الآراء وتبايناً بشأن المواقف والأحداث، التي تتناول الأوضاع الداخلية أو الإقليمية أو العالمية، على حد سواء.
والحوار، على مختلف أنواعه وألوانه، علامة على النضج الثقافي وارتفاع مستوى الوعي لدى المواطنين، فهو يدل على حرص على الإلمام بالأحداث وتفاصيلها، ثم تكوين رأي حيالها، ثم الإفصاح عن هذا الرأي والدفاع عنه في مواجهة المختلفين.
ومن علامات نضج الحوار الثقافي في المجتمع أنه يعرف جيداً الهامش الذي يمكن أن يكون مجاله رحباً فسيحاً يقبل بتعدّد الآراء والاجتهادات، والمجالات التي لا مجال فيها البتة لمثل هذه المناقشات، ولا مجال فيها إلا لرأي واحد، والخارج عنه لا يعدّ محاوراً ولا مناقشاً، بل مثيراً للفتن ومغرضاً.
فالفضاء الداخلي رحب وفسيح، وقضاياه التي تستدعي المناقشة والحوار، ويزيدها تعدد الآراء نضجاً وحكمة، لا مجال لحصرها، فهي متجددة بتجدد المجتمع وحيويته ونشاطه متعدد الألوان.
أما القضايا الأخرى التي لا مجال فيها إلا لرأي واحد وصفّ متراصّ، فهي كل القضايا المتعلقة بأمن الوطن واستقراره، فهنا لا مجال للمناقشات بل للخطوط الحمراء التي لا يقترب منها إلا مثير للفتن احتوت نفسه على مآرب شريرة بالوطن وأهله ومستقبله واستقراره.
وكذلك كل ما يخص قطعيات الدين الإسلامي الحنيف، فلا مجال لاختلاف، بل اتباع لا ابتداع، والسير على نهج الأنبياء والمرسلين، ومن بعدهم الخلفاء الراشدون المهديون، الذين أُمِرْنا أن نتبعهم ونقتفي آثارهم.
وكم سيكون المجتمع ثرياً غنياً بأفكاره حينما يلتزم هذه الحدود، لا يتخطّاها، بل يذهب يبحث عن مجالات أنشطة قابلة بذاتها، وتحتاج إلى صناعة الفكر والرأي ليبذل فيها وسعه وجهده.
وكم سيكون المجتمع نظيفاً طاهراً، والحوار راقياً ناضجاً، حينما نجد الالتزام بآداب الحوار الراقي الذي يتجنّب الخوض في الأعراض والأغراض، ويصبّ جل اهتمامه على القضايا والأفكار وماهيتها.
فليس كل حوار واختلاف هو حوار الشياطين واختلاف المشيطنين.. كما أنه ليس كل حوار واختلاف هو حوار العقلاء واختلاف المثقفين.