
تقول واحدة من القصص الخيالية ذات الجذور التاريخية: إن الإنسان يدفع حياته ثمنًا إنْ قابل ملك الحيرة النعمان بن المنذر في يوم بؤسه، وهو ما حدث مع حنظلة الطائي، الذي قضي عليه بالقتل فاستأذن ليقضي حاجةً لأولاده ويوصي بهم ويعود لتنفيذ الحكم، وضمنه شريك بن عدي بن شرحبيل نديم النعمان، وما حدث بعد ذلك كان درسًا في الوفاء بالعهد ورعاية الذمة.
مقابلة النعمان في يوم بؤسه:
وفي الباب السابع والثلاثين من كتاب "المستطرف في كل فن مستظرف"، يقول شهاب الدين محمد بن أحمد أبو الفتح الأبشيهي:
"أما الوفاء بالعهد ورعاية الذمم فقد نُقل فيه من عجائب الوقائع وغرائب البدائع ما يطرب السامع ويشنف المسامع كقضية "حنظلة" الطائي وشريك نديم النعمان بن المنذر. وتلخيص معناها: أن النعمان كان قد جعل له يومين: يوم بؤس من صادفه فيه قتله وأرداه، ويوم نعيم من لقيه فيه أحسن إليه وأغناه، وكان هذا الطائي قد رماه حادث دهره بسهام فاقته وفقره فأخرجته الفاقة من محل استقراره ليرتاد شيئًا لصبيته وصغاره، فبينما هو كذلك إذ صادفه النعمان في يوم بؤسه فلما رآه الطائي علم أنه مقتول وأن دمه مطلول، فقال: حيى الله الملك! إن لي صبية صغارًا وأهلًا جياعًا وقد أرقت ماء وجهي في حصول شيء من البلغة لهم، وقد أقدمني سوء الحظ على الملك في هذا اليوم العبوس، وقد قربت من مقر الصبية والأهل وهم على شفا تلف من الطوى ولن يتفاوت الحال في قتلي بين أول النهار وآخره، فان رأى الملك أن يأذن لي في أن أوصل إليهم هذا القوت وأوصي بهم أهل المروءة من الحي؛ لئلا يهلكوا ضياعًا ثم أعود إلى الملك وأسلم نفسي لنفاذ أمره".
النعمان يطلب ضامنًا:
فلما سمع النعمان صورة مقاله وفهم حقيقة حاله ورأى تلهُّفه على ضياع أطفاله، رقَّ له ورثى لحاله غير أنه قال له: لا آذن لك حتى يضمنك رجل معنا؛ فإن لم ترجع قتلناه! وكان شريك ابن عدي بن شرحبيل نديم النعمان معه فالتفت الطائي إلى شريك وقال له:
يا شريك بن عدي ... ما من الموت انهزام
من لأطفالٍ ضعاف ... عدموا طعم الطعام
بين رجوع وانتظار ... وسقام
يا أخا كل كريم ... أنت من قوم كرام
يا أخا النعمان جد لي ... بضمان والتزام
ولك الله بأني ... راجع قبل الظلام.
فقال شريك بن عدي: أصلح الله الملك! عليَّ ضمانه، فمر الطائي مسرعًا وصار النعمان يقول لشريك: إن صدر النهار قد ولى ولم يرجع؟ وشريك يقول: ليس للملك عليَّ سبيل حتى يأتي المساء.
الوفاء بالعهد
فلما قرب المساء قال النعمان لشريك: قد جاء وقتك، قم فتأهب للقتل، فقال شريك: هذا شخص قد لاح مقبلًا وأرجو أن يكون الطائي، فإن لم يكن فأمر الملك ممثلًا قال: فبينما هم كذلك وإذ بالطائي قد اشتد عدوه في سيره مسرعًا حتى وصل فقال: خشيت أن ينقضي النهار قبل وصولي، ثم وقف قائمًا وقال: أيها الملك، مر بأمرك، فأطرق النعمان ثم رفع رأسه وقال: والله ما رأيت أعجب منكما؛ أما أنت يا طائي فما تركت لأحد في الوفاء مقامًا يقوم فيه ولا ذكرًا يفتخر به، وأما أنت يا شريك فما تركت لكريم سماحة يذكر بها في الكرماء، فلا أكون أنا ألأم الثلاثة "أكمل ثلاثي الخصال الكريمة"، ألا وإني قد رفعت يوم بؤسي عن الناس ونقضت عادتي كرامة لوفاء الطائي وكرم شريك، فقال الطائي:
ولقد دعتني للخلاف عشيرتي ... فعددت قولهمو من الإضلال
"نصحني قومي ألا أعود للنعمان ورفضت"
إني امرؤ مني الوفاء سجية ... وفعال كل مهذب مفضال
فقال له النعمان: ما حملك على الوفاء وفيه إتلاف نفسك؟ فقال: ديني؛ فمن لا وفاء فيه لا دين له، فأحسن إليه النعمان ووصله بما أغناه وأعاده مكرمًا إلى أهله وأناله ما تمناه.
الملك النعمان
وحسب موسوعة "المعرفة"، النعمان بن المنذر بن امرئ القيس اللخمي، الملقب بأبي قابوس "582-609م" تقلد الحكم بعد أبيه، وهو من أشهر ملوك المناذرة في عصر ما قبل الإسلام، كان داهية مقدامًا، وهو ممدوح. وهو باني مدينة النعمانية على ضفة دجلة اليمنى، وصاحب يوم البؤس "يقتل من يقابله"، والنعيم "ينعم على من يقابله"؛ وهو قاتل عبيد بن الأبرص الشاعر في يوم بؤسه؛ وقاتل عدي بن زيد وغازي قرقيسيا "بين الخابور والفرات".