"شدا".. كراسات المطالب امتلأت!

"شدا".. كراسات المطالب امتلأت!

قبل عشرين عامًا اتفقت مجموعة من إعلاميي الباحة على الصعود إلى قمة جبل شدا؛ بهدف استكشاف غرائب وعجائب الجبل، ومن ثم تعريف السائح بمزايا "الشدوين" النباتية والطبوغرافية والمناخية، فضلاً عن تلمس احتياجات الأهالي ومطالبهم. وكانت رحلة شاقة وشيقة؛ إذ حملنا أبناء الجبل في سياراتهم ذات الدفع الرباعي؛ لارتقاء الجبال الشامخة عبر طرقات غير واضحة المعالم، تحفها الصخور ذات التشكيلات العجيبة، وسط مخاوف الصاعدين؛ إذ لو انحرفت السيارة عن مسارها ستهوي في مواقع سحيقة، إلا أن الذي زاد اطمئنانًا معرفتنا بخبرات أبناء الجبل بمسارات الطرق فوق الصخور المسطحة. وما إن تسنمت السيارة إحدى القمم العالية حتى تبدت لنا هضبة ضخمة يسمونها "الندبة"، يزيد ارتفاعها على 500 متر، تجثم في مكان عالٍ؛ ليكون مجمل الارتفاع نحو 1800م عن سطح البحر. والعجيب في الصخرة أنها كتلة واحدة ومتماسكة، وفي أحايين كثيرة لا يمكن مشاهدة قمة الصخرة بسبب السُّحب التي تحجبها في منظر آسر وخلاب؛ ما استهوى عددًا من الأجانب الذين يأتون في أوقات من العام بطائرة صغيرة، تحط على سفح قريب؛ ليمارسوا هواية التسلق، إلا أن الشاهدين من أبناء "شدا" يشعرون بأنه رغم احترافهم لم يتمكنوا من الصعود إلى قمته؛ ليعاودوا في سنوات أخرى، وهكذا ظلوا لفترات متباعدة دون التمكن من الصعود، إلا أنهم وجدوا متعتهم في مكان مثالي لممارسة هذه الرياضة في غياب تام لمحبي هذه الهواية من السعوديين.

والمدقق لأشكال الصخور والتجويفات التي تعرضت لها من عوامل "التجوية" يخيَّل له أنها متحركة؛ لتبدو بكل الأبعاد وفي أشكال تجريدية؛ فبعض الصخور على شكل الوجوه الآدمية، وكأنها مستلقية بعيون واسعة وشاخصة، وأفواه صارخة، وأنوف شامخة، وجماجم ضخمة.. وصخور أخرى على شكل القدور والصخور، بمجملها تشكل متحفًا مبهرًا، يثري قاعدة الحلم السريالي، وبأشكال إيمائية حركية، لا تنتمي إلى مدرسة فنية، بل الطبيعة - بقدرة الخالق- جعلت الجبل أكبر متحف فني لأشكال صخرية عائمة في فضاءات الجبل؛ لتكون مصدر إلهام للشعراء والروائيين وعشاق الطبيعة.

ومن أكثر المحاصيل الزراعية التي يهتم بها السكان محصول البن، الذي يعتني به المزارعون كأثمن شيء، ليس لكونه محصولاً اقتصاديًّا بل لأن الأهالي يجدون فيه مبتغاهم؛ إذ إن فناجين القهوة المُرّة في الصباحات الباكرة تحقق لهم المتعة والراحة النفسية استعدادًا ليوم حافل بالنشاط، سواء في ممارسة الزراعة أو الرعي لساعات الغروب.

تلك الصورة التي ارتسمت في الذاكرة انداحت ساعة صعود الجبل بصحبة فريق إعلامي، يجمع كتَّاب الرأي ومحترفي التصوير وغيرهم، جاؤوا ليشاهدوا مكامن الجَمَال في ربوع منطقة الباحة، ومن بينها "الشدوين"، واصطياد اللقطات الماتعات، سواء كانت لحظة غروب أشعة الشمس، أو ما قبل ذلك. وناصر الشدوي ابن الجبل الإعلامي والباحث في الآثار والتاريخ يستقبلنا للمرة الثانية؛ إذ هيأ كهفًا جبليًّا بمواصفات إبداعية؛ ليكون استراحة مختلفة في قمة الجبل، وكان قد استثمر تلك التجويفات الصخرية دون الإخلال بأشكالها، مع إضافة لمسات بسيطة ومن خامة الجبل نفسها؛ ليتراءى للزائر أن ثمة صخرة ضخمة، اقتطعها من تجويف الجبل؛ لتكون لوحة فنية بديعة. ومما يزيد الإعجاب به أنه استفاد من كل قطرة مطر هطلت على الجبل دون أن تسيح عبر الشعاب، بل تم حفظها في خزانات صخرية؛ ليكون الماء الشاهد على نبض المكان من خلال اكتساء حافات الاستراحة بأنواع من الأشجار، وخصوصًا شجرة البن. مؤكدًا التلازم بين الجبل وهذه الشجرة التي تنتج أنواعًا جيدة، تفوق المستور مذاقًا ونكهة. كان المساء رائقًا بنجومه وهوائه العليل ورشفات الشاي وحلاوة ثمرة التوت الجبلي.. لتشكل منظومة جميلة مع الحكايات التي انبثقت من حشاشة القلب، وكأن أحدًا يملي أسطورة لا يمكن أن تكون إلا في "شدا".

ولأن الإبداع يولد الإبداع فلم يكن المهندس أسامة بن ناصر الشدوي إلا امتدادًا لوالده، مع التغير في المجال؛ إذ تمكن من الفوز بجوائز كثيرة لمهاراته في عملية التصوير والإخراج السينمائي.. ومَنْ شاهد ذلك العرض الموجز يدرك أن قدراته عالية جدًّا رغم إمكاناته المحدودة. ويمكن استقطابه في إخراج أعمال أخرى، تحكي نهضة الوطن، وتصور مَواطن الجمال السياحي في بلادنا الغالية من شماله إلى جنوبه، ومن شرقه إلى غربه.. من ذلك الجبل برز الكثير من الشعراء والرواة والنقاد ومحترفي التصوير والرسامين.

بقي القول إن وطننا الكبير فيه مواقع سياحية فقط تحتاج إلى التفاتة إعلامية ومشاركة صادقة وفاعلة من رجال الأعمال. أما حلم الأهالي فقط أن تقوم إدارة النقل بتمهيد الطريق؛ ليصل إلى منازلهم؛ فتلك معاناة يعانيها أهل الجبل، ويقولون إن كراسات المطالب قد امتلأت، وليس هناك – مع الأسف - من مجيب.

أخبار قد تعجبك

No stories found.
صحيفة سبق الالكترونية
sabq.org