قبل ما يربو على اثنتي عشرة سنة بدأتُ في كتابة مقالات عدة في صحيفتَيْ "الرياض" ثم "سبق" حول الحاجة الماسة لتبني مفهوم تعزيز الصحة بمنظوره الشامل والمتكامل في السعودية، وأشرت إلى أنه المخرج الأوحد لمواجهة مهددات الصحة التي تعانيها السعودية، والتي تضرب في عمق التنمية الصحية والاجتماعية والاقتصادية، وعلى رأسها الأمراض المزمنة.
فالأمراض المزمنة، كالسكري وأمراض القلب والأوعية الدموية والسرطانات، تهدد الخدمات الصحية، وتستنزف الجزء الأكبر منها، وهي السبب الأول للمرض والإعاقة والوفيات في السعودية. أما عوامل خطورة الإصابة بتلك الأمراض، كالخمول البدني ونمط التغذية غير الصحي وتعاطي التبغ، فهي أسلحة خفية مدمرة، تخلخل أركان التنمية الصحية.
وكان من أهم السياسات والتشريعات التي طالبت بها في تلك المقالات، والعديد من التصريحات الإعلامية، ضرورة فرض ضرائب على الأطعمة غير الصحية، والعمل على وضع لوائح لتحديد نسبة الملح والسكريات والدهون المشبعة في الأطعمة، وكذلك منع استخدام الدهون المهدرجة المصنَّعة. وفي مقالات أخرى تحدثتُ عن أهمية الإفصاح عن السعرات الحرارية في المطاعم.
في ذلك الوقت كان رد بعض الزملاء المهتمين بالصحة على تلك المقالات بقولهم: هل أنت تحلم، أم تعيش في برج عاجي؟!! فنحن بحاجة لعقود طويلة لنصل لهذه المرحلة من تعزيز الصحة في السعودية. وفي المقابل، كان ردي عليهم مقتضبًا بأن كل ما نحتاج إليه فقط الإرادة السياسية والقناعة من قِبل القيادات وصانعي السياسات في السعودية بأهمية تعزيز الصحة، ووضعها في صلب الأجندة السياسية وأولويات الصحة في السعودية.. ومتى ما توافرت تلك الإرادة فكل تلك السياسات والتشريعات ستأتي تباعًا.
والآن، وبعيدًا عن أي مجاملات، فنحن نعيش عصرًا ذهبيًّا غير مسبوق في تاريخ السعودية لتعزيز الصحة؛ فهناك التزام من القيادة الرشيدة بذلك، ودعم سياسي لها، وتحرُّك سريع من معالي رئيس المجلس الصحي السعودي ووزير الصحة د. توفيق الربيعة في هذا الاتجاه.
أما موافقة خادم الحرمين الشريفين الملك سلمان بن عبدالعزيز ـ حفظه الله ـ على أن تكون الصحة العامة سياسة وأولوية في جميع الأنظمة والتشريعات لمكافحة الأمراض والوقاية منها فهي موافقة تاريخية.
وبما لا يدع مجالاً للشك، فتعزيز الصحة الذي يشمل بناء نمط الحياة الصحي، وتطوير الرعاية الصحية الأولية، وتحسين جودة خدمات الصحة العامة، وتعزيز التنمية الصحية، استراتيجيات مصنوعة في رحم رؤية 2030 وبرنامج التحول الوطني 2020.
وها نحن نرى معظم تلك السياسات والتشريعات التي كنا – نحن المتخصصين في مجال تعزيز الصحة نطالب بها – تتحقق أمام أعيننا؛ فقد شهدنا قبل بضعة أشهر فرض الضرائب على الأطعمة غير الصحية، الذي بدأ يصنع أثرًا في خفض نسبة الطلب على المشروبات غير الصحية والتبغ، وها هي هيئة الغذاء والدواء - بدعم من رئيسها أ.د. هشام الجضعي - تطلق الاستراتيجية الوطنية للغذاء، التي تشمل وضع حدٍّ لعبث المطاعم وشركات الأغذية في تهديد صحة المجتمع، من خلال منظومة متكاملة، تشمل تقنين نسبة الملح والدهون المشبعة والسكريات في الأطعمة، والحد من استخدام الدهون المهدرجة، والإفصاح عن السعرات الحرارية.
وها هو برنامج التحول الوطني يرصد مبالغ ضخمة، تتجاوز 1.5 مليار لتدخلات الصحة العامة لخفض معدلات البدانة والتدخين والحوادث المرورية، ودعم المركز الوطني للوقاية من الأمراض.. وهي كفيلة بأن تصنع أثرًا في المجتمع متى ما أُحسن استثمارها بطرق تستند للبراهين العلمية بعيدًا عن اللامنهجية في العمل!!
والآن، ما الذي تبقى في مسيرة تعزيز الصحة؟ بلا شك نحن في بداية الطريق الصحيح، وفي أولى خطوات سلم النجاح، والطريق ما زال مليئًا بالتحديات كما الفرص!! وكما تقول منظمة الصحة العالمية فمواجهة تحدي الأمراض المزمنة يقتضي قدرًا معينًا من الشجاعة والطموح، وجدول الأعمال واسع وجريء، إلا أن الطريق إلى الأمام واضح كل الوضوح.
ومن أهم التحديات كيفية نقل هذا التأييد والدعم والقناعة بتعزيز الصحة إلى مستوى القيادات الوسطى والدنيا في وزارة الصحة، وتحديدًا على مستوى القيادات في مديريات الشؤون الصحية، وكذلك القطاعات الصحية الأخرى. وبلا شك، فإن هذا التأييد لا بد أن يصنع ويتشكل أيضًا في دوائر القطاعات الحكومية غير الطبية، كوزارة المالية والإعلام والشؤون البلدية ووزارة التعليم العالي.
ولا أبالغ إذا قلت إن كل ما سبق ذكره من تشريعات وأنظمة معززة للصحة قد لا تحقق أثرًا ولا تنجز هدفًا إذا لم يصاحبه تأهيل قياديين متعطشين لذلك، متوثبين لتحقيق رؤية 2030، مسلحين بقدر عالٍ من المهارات القيادية والتفكير الاستراتيجي، واتخاذ القرار والتمكين، وتبني الأسس العلمية والمؤسسية في برامج تعزيز الصحة بعيدًا عن الارتجالية.
أما متابعة إنفاذ تلك التشريعات والأنظمة؛ لتصبح واقعًا ملموسًا، فهي محك رئيسي لنجاحها، وهي تحتاج لبرامج رقابة وعقوبات صارمة، تضرب بيد من حديد على المتلاعبين بصحة المجتمع وبائعي المرض.
أما "تمكين المجتمع" فهو جوهر العمل في تعزيز الصحة. وهنا نحتاج لمبادرات وطنية، تصل إلى جذور المجتمع؛ ليصبح شريكًا في اتخاذ القرارات الصحية وتنفيذها وتقييمها.
وبعد ذلك كله هل يحق لي أن أحلم مرة أخرى؟
ما زال هناك بعض الأحلام طالما طالب بها المتخصصون في تعزيز الصحة لم تتحقق!! أو هي في طريقها للتحقق بمشيئة الله، من أهمها وأعمقها أثرًا في المرحلة القادمة تحسين صحة الناشئة، وتعزيز الصحة في المدارس، ووضع ذلك في صلب الأجندة السياسية، فضلاً عن الحاجة لتطوير التوعية الصحية في السعودية.
وبعون الله سأخصص بعضًا من مقالاتي القادمة في تلك الأبعاد الجوهرية لتطوير الصحة في السعودية.
أخيرًا، وبدون شك، فحديثي السابق لا يُنقص إطلاقًا من الجهود التي تُبذل من قِبل الزملاء والزميلات في وزارة الصحة والقطاعات المعنية الأخرى، لكننا بحاجة ماسة لإعطاء مزيد من تجويد العمل، وفق منهجية مؤسسية؛ لنستطيع صنع الأثر في المجتمع. وتعلمنا التجارب الدولية أن علينا استثمار كل لحظة في مثل هذه الفترة التي تشهد تأييدًا سياسيًّا لتعزيز الصحة.
وهذا ما يطمح إليه المجتمع، وخصوصًا في ظل وجود قيادة تواقة للتطوير، وتسريع عجلة التنمية الصحية في السعودية، سواء في المجلس الصحي السعودي أو وزارة الصحة أو في هيئة الغذاء والدواء، وغيرها من القطاعات ذات العلاقة.