إندونيسيا من أكثر الدول التي تحتفي بشهر رمضان بشكل مدهش، حيث تختلط جماليات العادات والتقاليد بالإيمانيات المعتادة. وتظهر الصور المتعدة لتشكل لوحة رائعة تعكس عمق أهمية الشهر الكريم ومكانته في هذا البلد.
ومع بداية الشهر الكريم تمنح الحكومة الإندونيسية أول ثلاثة أيام في الشهر الكريم إجازة للطلاب، ويحرص أغلب الإندونيسيين على البقاء لفترة أطول في المساجد وقراءة القرآن الكريم وتكثيف حلقات الذكر والتلاوة. وبذلك تصبح المساجد شعلة نشاط ديني واللافت أن العديد من الأنشطة تقام بعد صلاة الفجر وفي الفترة الصباحية في بعض الأقاليم حيث هذا التوقيت في بلدان أخرى عادة يكون وقتاً للراحة.
مساجد البلد المذهلة في جمالياتها وارتياد الناس لها وأبرزها مسجد "الاستقلال" في جاكرتا أكبر المساجد في العالم بعد الحرمين الشريفين ومسجد (رايا بيت الرحمن) في بندا آتشيه من أشهر المساجد التي يستهدفها المصلون وبها أنشطة رمضانية مختلفة.
احتفالات وطبول البدوق
تنطلق الفعاليات ومظاهر الاحتفاء بمجرد الإعلان الرسمي لوزارة الشؤون الدينية الإندونيسية عن دخول الشهر المبارك وهي ممن تستخدم الرؤية الشرعية والحسابات الفلكية أيضاً.
وإذا كنت في إندونيسيا فربما ستشهد مظاهر عديدة ومختلفة من خلال نزول الإندونيسيين للشوارع في احتفالات بدخول الشهر الكريم. كما تغص الأسواق بحراك غير عادي.
أما العادات والتقاليد الخاصة فتبرز من خلال ارتداء الأزياء الشعبية والتقليدية كما يفتتح الإندونيسيون -وقد لا يكون في كل الأقاليم- الشهر بزيارة المقابر للدعاء لأحبابهم الراحلين.
وفي هذا المجال ربما ستشهد العديد من التجمعات تقوم بترديد الأناشيد والابتهالات الدينية وبعضهم يقوم بدور منتظم وشامل من خلال القيام بدور (المسحراتي) واستخدام طبول (البدوق) الشهيرة للإعلان عن دخول الشهر وأيضاً الإشعار بأوقات الصلوات وإيقاظهم للسحور وأحياناً إشعارهم بالإفطار وهو أمر غير منتظم في كل الأقاليم.
حلال بحلال
أيضاً هناك ظاهرة جميلة تسمى (حلال بحلال) بالتسامح فيما بينهم وخصوصاً المتشاحنين ويكون ذلك في المنازل وفي المساجد ويقوم عليها مجالس مصالحة والعلماء حيث يحصر أبرز من بينهم خلافات ويتم الترتيب لجمعهم وإجراء التصالح.
أما موائد الإفطار ووجبات السحور فتحفل بالأفضل وتركز على الأطعمة الصحية والفاكهة تحديداً ومن أشهرها شراب “تيمون سورى” وهو من أشهر العصائر من فاكهة الشمام. وهناك أيضاً حلوى البطاطا المشهورة باسم "الكولاك"، في حين يبقى (الأرز) حاضراً في كل الوجبات وأفضله لديهم ما يعرف باسم “ناسى جورينج”, ويقدم إلى جانب الأسماك أو الدجاج أو اللحوم.
كما جرت عادة الإندونيسيين عند الإفطار على تناول خفيف المشروبات والحلوى المحلية وعصائر قبل صلاة المغرب ثم الوجبة الرئيسة بعد الصلاة.
نشاط ديني مكثف
كما يبرز نشاط هائل للمعاهد والجمعيات الإسلامية وتركز على الدعوة والإرشاد وأنشطة "تدارس" للحلقات القرآنية وأيضاً مشاريع (إفطار صائم) ونحو ذلك.
ويبرز في هذا الصدد أيضاً وبشكل مكثف عن بقية العام نشاط المعاهد والمدارس في برامج يسمونها (PESANTREN KILAT)، وهي عبارة عن أنشطة دينية وثقافية خاصة بالتلاميذ الذين يقيمون بشكل كامل في مرافقها.
غير أن "صلاة التراويح" هي شيء آخر بالنسبة للإقبال عليها وتختلف عدد الركعات من مكان لآخر ما بين ثماني ركعات وتصل إلى 20 ركعة في إقليم آتشيه مثلاً. كما تُقرأ الأذكار الجماعية بين الصلوات والنساء يحضرن أيضاً صلاة التراويح في مكان في جانب المسجد. ويكون بالطبع لـ"ليلة القدر" ما يُعجز الوصف.
الشعب الإندونيسي عموماً شعب في غاية البساطة طوال العام وليس فقط في رمضان ولكن هذا الشهر من الطبيعي أن يكون هناك احتفاء وحضور كبير لمشاعر أكبر بلد مسلم في العالم.
حب للعرب والمسلمين
وعن ملامح من طبيعة حياة الناس في إندونيسيا يقول الشيخ والداعية إبراهيم الطلحة وهو اسم معروف في هذا المجال في إندونيسيا: إندونيسيا بلد مذهل و90% من سكانها مسلمون. مضيفاً: "إندونيسيا بلد حكمه الهولنديون قرابة 300 عام وعاث فيه اليابانيون والبرتغاليون ورغم ذلك حافظ أهلها على الإسلام كدين أول ورئيسي. الإندونيسيين شعب في غاية الطيبة والبساطة ولهم تعلق وحب مميز للمسلمين والعرب والسعوديين خصوصاً".
ويؤكد: "الإندونيسيون بحاجة لتعليم أكثر في الدين الإسلامي بالذات وهناك الكثير من الأماكن فيها تتمنى أن ترى مُعلماً عربياً واحداً. وبالرغم من وجود مظاهر للتصوف في البلد إلا أنها تأتي عن طريق الجهل وليس تصوفاً علمياً بل يغلب عليها الجهل، لدرجة أنهم في ذلك يخلطون النشيد الإسلامي بكلمات بعض الأغاني العربية المشهورة.
عادات صحية
وعودة لطباع الشعب يقول الشيخ "الطلحة" الذي يُمضي معظم وقته في إندونيسيا في مجال الدعوة: "الإندونيسيون شعب عجيب وعندهم غرائب. ومن خلال المعايشة من النادر أن تجد أحدهم مصاباً بالضغط أو السكر، بل إنهم حريصون على العناية بصحتهم وهي ثقافية إيجابية ورثوها وتربوا عليها فهم لا يحبون المشروبات الغازية ولا المعلبات بل وفيهم كثير لا يجلب السكر والملح إلى بيته، وستلاحظ أن المشروبات الغازية مثلاً لا تجدها في المحلات والبقالات الشعبية ولكن في مواقع الخدمات السياحية. وكلما ابتعدت في الأرياف لن تجد تلك المعلبات أو المشروبات الغازية".
إندومي.. لا
وعن مظاهر أخرى يضيف: "يستيقظون مبكرين ويتعرضون للشمس هم وأطفالهم ولذلك من النادر أن تجد لديهم نقصاً في الحديد أو فيتامين د.
الإندونيسيون كما يقول لنا أحد المرشدين المرافقين – وكانت مفاجأة لنا – لا يأكلون (الإندومي) "إلا في حالة لا يوجد غيره"!. بل يفضلون الأرز الطبيعي الذي يزرعوه وهو حاضر في وجباتهم الثلاث، ويقول لنا السائق "حلمي" إنها وجبة غير صحية.
والمراقب لحركة المرور في الشوارع مثلاً يلحظ كيف يتناغم الإندونيسيون بصبر وتوافق فمن المشاهد المعتادة أن يقوم أي أحد بتنظيم حركة المرور ويدخل فجأة ويوقف السيارات ويسمح لغيرها بالمرور ويحصل على مبلغ زهيد جداً وفي نفس الوقت لا ينزعج أي طرف ويتفهم الجميع ذلك.
تسامح
عن التسامح في إندونيسيا يقول الشيخ الطلحة: "خلال 15 شهراً قضيتها هناك لم أشهد أي خلاف بين اثنين. بل إن كلمة "العين" بمعنى الحسد لا يوجد لها ترجمة في لغتهم. بل ومن الأمثلة التي تحضرني أنني كنت راكباً مع صديق إندونيسي في سيارته واحتكت سيارته من سيارة قادمة بخطأ من تلك السيارة وكسرت مرآة سيارته. تضايقت أنا وسألته كيف يسمح له بالذهاب فرد مبتسماً "لعله لم يرنا" بكل بساطة.
ويروي الشيخ الطلحة عن مظاهر التقدير بين الإندونيسيين أنهم لا ينادون أحداً باسمه مجرداً فإما "ِشيخ" أو "حاج" أو "أستاذ" أو نحوها وهناك صيغ تقدير بحسب مقام الشخص. بل إن الحياء يغلب عليهم كثيراً، وفي المساجد وحتى المجالس الأخرى لو أراد العبور من أمامك يضع يده كمن يصنع حاجزاً وينحني ويمر سريعاً وهو مبتسم وخجل.
تعايش
وأضاف: "الإندونيسيون يولون الأسرة أهمية عالية وهناك ترابط أسري كبير. وهو في رمضان أكثر. وكمثال في كل عيد فطر تجلس الزوجة عند ركبتي زوجها وتعتذر عن أي قصور وتعد بعام أجمل".
"التعايش" في إندونيسيا هو تحدٍ للحكومة ينبغي تحقيقه، ولكنه أصبح سهلاً بحكم طباع الشعب وتعامله مع بقية مكوناته. فلا تلحظ إن كان مسلماً أو نصرانياً فالجميع متفقون على تعاملٍ حسن ومميز.
ومن المعلوم أن الدستور الإندونيسي يعترف بخمس ديانات ولكن الإسلام هو الأول، والإندونيسي لديه غيرة كبيرة على الإسلام حتى لو كان غير ملتزم.