

يقول مدير التعليم في عسير سابقاً "مهدي بن إبراهيم الراقدي"، الذي لا يُذكر التعليم في عسير إلا ويحضر اسمه: "تخرجت من المعهد العلمي بأبها لألتحق في عام 1386 بالمعهد العالي للغة العربية بالرياض، والذي كان نواة لجامعة الإمام محمد بن سعود، لأتخرج منه عام 1390، وكانت دفعتي أول دفعة تحصل على البكالوريوس من أبها لأعود إلى مسقط رأسي وأتعين في شهر رمضان من العام نفسه معلماً للغة العربية ووكيلاً بثانوية أبها لثلاث سنوات، وكانت الثانوية الوحيدة آنذاك بمنطقة عسير".
وأردف: "كنت أول معلم سعودي للغة العربية يعمل بهذه الثانوية؛ لأتفاجأ بمدير عام منطقة الجنوب التعليمية في أبها في حينها محمد بن صالح الفواز -رحمه الله- يطلب مني الحضور ويصدر قراراً بتكليفي بالعمل رئيساً للهيئة الفنية، وهي المسؤولة عن كل ما يعني التربية والتعليم في ذلك الوقت؛ فهي تقوم بجميع المهام التي تقوم بها أقسام الشؤون التعليمية والمدرسية في الوقت الحاضر".
وتابع: "في فترة عملي في الهيئة الفنية بإدارة تعليم أبها، كنا المسؤولين عن توفير الكتب والمعلمين والرواتب ومكافآت الطلاب وجميع المستلزمات والوسائل لجميع المدارس التابعة لمنطقة عسير عدا بيشة، وكنا نتجشم الصعاب من أجل الوصول إلى تلك المدارس المتناثرة في مختلف أرجاء المنطقة؛ طرق وعرة غير ممهدة تخترق الجبال والأودية والشعاب؛ بل إننا نسير على الأقدام في سبيل الوصول إلى بعض المدارس، وكنا نقطع 235 كيلو متراً مدة 3 ساعات للوصول من أبها إلى محايل عبر طريق عقبة ضلع الشقيق خميس البحر، وصولاً إلى محايل، وعن طريق عقبة رجم 4 ساعات ونصف الساعة نقضيها سفراً للوصول إلى محايل، والتي أصبحت المدة الزمنية للوصول إلى جدة في وقتنا الحالي في ظل التطور الذي شهدته المملكة والنقلة المعجزة التي تمت في جميع مناحي الحياة بما فيها شبكة الطرق التي اختصرت المسافة من أبها إلى محايل إلى 80 كيلو متراً وبمدة زمنية لا تتجاوز الساعة عبر جسور معلقة وأنفاق تشق الجبال عبر عقبة شعار".
وذكر أنه "أمام تلك المعاناة والمشقة التي كان يتكبدها الجميع والحالة المعيشية الصعبة التي شاركنا في تقاسمها إخواننا من المتعاقدين من بعض الدول العربية الذين يعود الفضل لهم -بعد الله- في دفع عجلة التعليم، والذين كانوا يذهبون إلى تلك المدارس التي يوجهون إليها؛ إلا أنهم سرعان ما يعودون طالبين الإعفاء بسبب وعورة الطرق ونأي المكان؛ إلا أننا كنا نحاول إقناعهم بالبقاء، وكان لطيبة أبناء تهامة الدورُ الكبير أيضاً في إقناعهم في الوقت الذي يقوم فيه البعض بمقاسمتهم منازلهم للسكن فيها والتي كانت عبارة عن صنادق وعشش؛ إلا أن إصرار الدولة -أيدها الله- على نشر التعليم برغم كل الظروف كان وراء كل ما تم؛ لكون ذلك جزءاً من سياستها، ونظراً لارتباط عشرات المدارس بإدراة تعليم أبها؛ طرأ في ذهني فكرة لم أتردد لحظة في بلورتها إلى واقع".
وأضاف: "وكان الخطاب السري الذي غيّر مجرى ومسيرة التعليم في عسير.. نظراً لما كانت تعيشه أطراف منطقة عسير ومنها تهامة، وبحكم مسؤوليتي أخذتُ أحاول إقناع زملائي بفصل تهامة عسير عن أبها تعليمياً".
وقال لـ"سبق": إن الفكرة لم تكن موجودة عند المسؤولين؛ مضيفاً: "كان أمرُ فتحِ إدارة تعليم جد صعب؛ لما يترتب على ذلك من أمور كثيرة، ولافتقاد المنطقة إلى الكفاءات والطاقات والمقومات البشرية والتنموية والحياتية.. لأقوم حينها بكتابة خطاب سري أشرح فيه الحال والوضع السيئ لمدارس تهامة والحياة بشكل عام، وذكرت بالحرف الواحد لوزير المعارف -عبدالعزيز الخويطر آنذاك- أننا نمشي على الأقدام للوصول لبعض المدارس، وأن إدارة تعليم أبها والوزارة عاجزتان عن خدمة تهامة منطقة عسير، وأعني محايل والمراكز التابعة لها، وسلّمتُ الخطابَ المكون من ثلاث صفحات يداً بيد للوزير الخويطر دون علم مدير التعليم في أبها عام 1400؛ متخطياً بذلك مرجعي، وقال لي الخويطر ما نصه: إذا في خطابك ما يلزم استدعاءك استدعيناك".
وتابع: "فعلاً تم استدعائي، وشكّلت لجنة بعضويتي أنا وعبدالرحمن القاسم خبير بالوزارة، وأحد المساحين من تعليم أبها.. ظاهر اللجنة كان دراسة وضع المباني وهي في حقيقتها لدراسة وضع المنطقة وهل يمكن فتح إدارة تعليم فيها أم لا، واستمرت الدراسة شهرين كنت أنا السائق لذلك الخبير، وبعد شهرين قدّمنا للوزارة تقريراً مكوناً من 70 صفحة وخمس نسخ قُدمت للوزير وصانعي القرار في الوزارة يشرح واقع تهامة ويرى إحداث إدارة مقرها محايل عسير ليخضع التقرير لدراسة استمرت قرابة ستة أشهر، ويصدر القرار رقم 478 في شهر صفر من العام 1401 بإنشاء إدارة للتعليم في منطقة محايل، نعم منطقة "محايل" كما صدر في القرار؛ لأنتدب لتجهيزها وإعدادها وإدارتها شهرين، ليمتد الندب إلى 9 أشهر قبل أن يصدر تكليفي مديراً للتعليم بها".
وأكد "الراقدي" أن إدارة تعليم محايل كانت الانطلاقة لاستحداث إدارات تعليم أخرى في مختلف أرجاء المنطقة، وافتتح الأمير خالد الفيصل بن عبدالعزيز -أمير منطقة عسير آنذاك- الإدارة الجديدة في شهر 4/ 1402 في مبنى "بن مرزوق" المستأجر بمحايل"؛ في الوقت الذي افتتح فيه الأمير فيصل بن بندر نائب أمير منطقة عسير سابقاً مبنى الإدارة الحكومي والمكتبة العامة وثانوية محايل في عام 1405 في احتفال كبير، وكان مبنى إدارة تعليم محايل أول مبنى إدارة تعليمية حكومي في منطقة عسير".
وذكر أنه في عام 1406- 1407 كانت الإدارة من أوائل المناطق في كم المشاريع التي بُنيت؛ ففي أربع سنين من اعتمادها كان لديها مبنى إدارة وأكثر من 80 مبنى حكومياً بعد أن كان في محايل مبنى حكومي واحد هو مدرسة الوليد بن عبدالملك وخمسة مباني حكومية مبسطة سقوفها من خشب، وفي المجاردة مبنى حكومي واحد هو مبنى مدرسة عبدالرحمن الغافقي، وكان أغلب المدرسين في عسير متعاقدين، والمعلمون السعوديون لا يتجاوزن 200 معلم سعودي.
وقال "الراقدي": إن الأمير خالد الفيصل رائد التنمية في عسير بعد النتائج التي حققتها إدارة تعليم محايل طلَب أن يكون في كل مركز إدارة تعليم وكان يزور تهامة كل عام.
وأول لقاء له بالمعلمين ومديري المدارس في المنطقة كان في محايل عام 1413 في مبنى إدارة التعليم وأصبح الاجتماع يتكرر كل عام.
واستمر العمل -وفق "الراقدي"- بكوكبة من أبناء تهامة عسير، كانوا وراء كل ما تَحقق من نجاح، وكانت محط أنظار ولاة الأمر وفي مقدمتهم الأمير سلطان بن عبدالعزيز رحمه الله الذي زار بعض مدارس محايل وأعجب بها وبما يقدم فيها من أنشطة وبرامج.
ولكن لماذا كانت تذهب المشاريع التعليمية إلى "حائل" بدلاً من محايل؟!
يقول "الراقدي": "من الطرائف أن بعض المشاريع المعتمدة لنا كانت تذهب إلى منطقة حائل؛ لعدم معرفة المقاولين لمنطقة محايل التعليمية سابقاً، وكنا نتابع مع الوزارة والمقاولين من أجل إعادة مشاريعنا إلينا؛ ولكن محايل برغم ذلك استطاعت أن تسجل السبق في عدد من المجالات؛ منها المشاريع والمباني الحكومية، والإنجازات المتتالية التي أجبرت بعض الوزراء والوكلاء وصانعي القرار في الوزارة على زيارة تعليم محايل وبينهم الدكتور محمد الرشيد".
ويقول "الراقدي": "كان هناك منطقة منعزلة تماماً عن العالم اسمها الدبوب، تتبع لمحايل، سكانها بدو رحل، ولا مدارس قريبة منهم، ولا يوجد بها مبانٍ، أهلها يسنكنون تحت الشجر وفي الشبوك والعشش والصنادق؛ فقمنا بنصب خيام في أحد المواقع القريبة منهم كمدرسة مؤقتة، وجمعنا السكان المتفرقين في مكان واحد، وبنينا لهم مسجداً، وزودنا الموقع بخزانات مياه كبيرة، وشرعنا في بناء مدرسة مصغرة في نفس الموقع؛ كل هذا وذاك كان بالجهود الذاتية من قِبَل الإدارة وفاعلي الخير، وقمت بإغلاق مدرسة "سيف الدولة" لقلة طلابها، ونقلتها إلى الدبوب على مسؤوليتي بمسامها، وأشعرت الوزارة بذلك".
وتابع: "في افتتاح المسجد والمبنى المبسط لمدرسة سيف الدولة بالدبوب جمعت كل أصحاب القرار في محايل في حفل الافتتاح؛ لأسلط الضوء على ما يعيشه الناس في هذا المكان، ولأحمّل كلاً منهم المسؤولية أمام الله كل فيما يخصه، والحمد لله وصلت الطرق وتحسن الحال كثيراً، وحقق العمل أهدافه السامية التي أنشئ من أجلها".
ورصد عدد من الحضور "الراقدي" عندما ذرفت عيناه بالدموع عند مشاهدة أحد الأطفال وهو يتبع أحد المعلمين المتعاقدين تاركاً والده الذي هو بين الحضور؛ عندها تيقن "الراقدي" أن هذا المعلم قد أدى دوره وأن هذا الطفل قد وجد ضالته.
وهناك عدد من المدارس التي أنشئت في عهد "الراقدي" بالجهود الذاتية؛ منها مدرسة مليحة التي لا تقل شأناً عن مدرسة سيف الدولة بالدبوب.
ويقول مهدي الراقدي: "بعد عام 1417- 1418 وحرب الخليج وما لحق بالدولة من عجز مالي في ميزانيتها؛ رأت الوزارة إيقاف المكافآت التي تُصرف للطلاب بواقع 150 ريالاً لطالب الابتدائي، و300 ريال لطالب المتوسط والثانوي؛ نظراً للحالة المادية للأسر وما تُشَكّله تلك المكافآت من دعم وتشجيع للطلاب، وأنها أحد عوامل جذب الطلاب ونشر التعليم، وعندها قُلت لوزير المعارف في حينها الدكتور محمد الرشيد رحمه الله: "أرجو ألا توقف المكافآت في عهدك"، واكتفيت بهذا؛ ليعدل عن قراره ويستمر صرف المكافآت إلى يومنا هذا ولله الحمد".
وأكد "الراقدي" أنه في عام 1410 لم يعد هناك طالب في سن التعليم لم يلتحق بالدراسة نتيجة النقل المدرسي الذي تم توفيره والإعانات وحملات محو الأمية والتعليم الليلي (تعليم الكبار)، يقول "الراقدي": "30 مليون ريال في السنة مكافآت للطلاب كانت تُصرف كل شهرين أو ثلاثة أشهر، تُصرف نقداً في المدارس عبر مندوبي صرف ينتشرون في تلك التضاريس الصعبة ويقضون أياماً عدة، إلى أن يُتِموا عملية الصرف.. وكذلك الحال كل شهر في صرف رواتب المعلمين كل شهر في مدارسهم نقداً عبر مسيرات؛ فلم يكن هناك شيكات ولا أجهزة صراف إلكترونية.. الحال ليس كما هو الآن!".
ويقول "الراقدي": "شاهدنا من خلال زياراتنا لبعض المدارس النائية سوءَ التغذية للطلاب، وتسىرب بعضهم بسبب ضيق ذات اليد لأسرهم وبُعدهم عن المراكز التجارية؛ فقمنا بعمل مشروع إفطار خيري بجهود ذاتية وبدعم من فاعلي الخير لقرابة 25 مدرسة نائية، واستمر الإفطار الذي كان يصل عبر الطرق الوعرة من قِبَل إدارة التعليم من خلال فريق عمل مكلف بذلك إلى تلك المدارس كل يومين بواقع الوجبات التي تكفي الطلاب، وقد جذبت تلك الوجبات الطلاب للدراسة وحسّنت من وضعهم الصحي".
ويستطرد "الراقدي" في سرد مسيرته الحافلة بالعطاء والبناء ليقول: "بعد ربع قرن قضيتها مديراً للتعليم في محايل؛ صدر قرار وزاري بتعييني مديراً لتعليم عسير؛ لأعود إلى نقطة البداية لي في التعليم، وكان ذلك في 1/ 7/ 1424؛ لأكون أول مَن يستلم إدارتين في بداية دمج تعليم البنين والبنات؛ فاستلمت البنين من سياف آل خشيل مدير عام تعليم عسير للبنين، واستلمت البنات من الشيخ قاسم الشماخي رحمه الله مدير تعليم البنات، ويقول: إنه من المفارقات في حياته العملية أنه استلم من شخصين وسلم شخصين بعد صدور تقاعده بعد أن فصلت البنات عن البنين في عهد الوزير الدكتور صالح العبيد".
ويقول: "أعادني القدَر إلى إدارة تعليم عسير، وكأن لسان حاله يريد أن يقول لي: هذه الإجابة على خطابك السري! لأعمل مديراً عاماً لتعليم عسير، إلى أن تقاعدت في 30/ 6/ 1426، طاوياً بذلك صفحات من العمل والعطاء من أجل ديني ووطني ومليكي".