يا جمعيات التحفيظ.. تدبُّر القرآن أولى من تحفيظه

يا جمعيات التحفيظ.. تدبُّر القرآن أولى من تحفيظه

ليس لدي اعتراض مطلقًا على انتشار جمعيات التحفيظ في هذه البلاد المباركة إلا كاعتراضي على إقامة المدارس لنشر العلم والمعرفة بين الناس؛ فلا يجافي كتاب الله ويكره الخير للناس إلا حاسد أو محروم؟! لكن الذي استوقفني في هذه الجمعيات –كما نقرأ أخبارها- تركيزها على (تحفيظ السور القرآنية) أكثر من تدبُّر القرآن، على الرغم من أنها ترفع هذا شعارًا لها، أي معنى (التدبر).

وفي اعتقادي، إن التركيز على (كمية) الحفظ إلى جانب (كيفية) الحفظ قد أضرَّ من حيث أريد له النفع؛ فتجد أحيانًا حافظًا لكتاب الله الكريم لا يفقه منه إلا قليلاً، أو لا يتمثله في سلوكه، وبعد أشهر بسيطة يكون ما قد حفظه قد طواه النسيان.

وهذه القضية القديمة المتجددة، أعني بها تهميش ما عدا حفظ القرآن، لا تزال في هامش جمعيات التحفيظ، ولا تستوقفهم أو تسترعي انتباههم؛ فتذهب كثير من جهودهم سدى؛ فتجد حلقات التحفيظ المنتشرة في المساجد والمقارئ القرآنية للموظفين، ودور الحافظات للنساء، دون أن تجد فيها درسًا واحدًا في تفسير بضع آيات من كتاب الله، أو تلمُّس هداه وبعض من معانيه الأخلاقية التي يغص بها هذا الكتاب العظيم. وليس غريبًا بعد ذلك أن تقرأ عن تكريم طلاب أتموا حفظه في شهرين! نعم، في ستين يومًا، ليس من ضمنها تدبر آية، أو تفسير سورة، أو تأمُّل معنى إيماني جميل، مثل الكرم أو التسامح أو حسن الخلق في القرآن الكريم.. فلا وقت لديهم لهذه الأشياء، ولا تعجب بعد ذلك حين تتقدم صفوف المصلين في صلاة القيام طائفة من صغار (بورما)، ويتوارى العشرات من حفظة الكتاب الذين أنفقت الجمعيات ملايين الريالات في كفالتهم ورعايتهم وتحفيظهم.. فتتساءل: أين اختفى القراء؟ وأين ذهبت الملايين؟!

لقد كان همُّ علماء المسلمين من الأئمة والمفسرين والنحاة فَهْم هذا القرآن، وتأويله وإعرابه، واكتشاف أسراره، والتفكُّر في آيات الله الواردة فيه؛ لأن ذلك أدعى إلى تطبيق ما فيه من الأوامر والأحكام؛ فألَّف ابن القيم والسيوطي والزركشي في علوم القرآن. ومن الكتب البديعة التي تدعو للتأمل واستقراء هذا القرآن أحد كتب الرازي الذي أطلق عليه (عجائب القرآن) حتى نقل عن أبي بكر الصديق - رضي الله عنه - في زمن البكور اللغوي أنه قال: "لأن أعرب آية من القرآن أحب إليّ من أن أحفظها"؛ لأنه عرف أن فَهم آية واحدة من القرآن ومعرفة معناها وفحواها يتضمن استبصارًا بها وبمدلولاتها، وإظهارًا لبلاغتها، وكشف أسرارها.. وإن العجب ليأخذني؛ كيف أننا انصرفنا عن ذلك – أي عن ربط علوم الآلة بالقرآن-بالرغم من كل هذه العجمة التي في ألسنتنا، ودخول الموالي وضياع سليقتنا اللغوية؟! ولا تفسير عندي لذلك سوى الادعاء والمكابرة والجهل!

وإذا كان التفسير على شرف منزلته يُعتبر من فروض الكفاية فلا أقل من أن تتنبه هذه الجمعيات إلى أن مشروعات الحفظ والاستظهار هي بالأحرى أيضًا فرض كفاية، وأن صرف جزء من وقتها في مشاريع قرآنية مثل (التفسير) و(قيم القرآن) و(البلاغة) و(التجويد) هو أولى من بذل كل طاقتها في التحفيظ، ولاسيما ونحن في عصر أصبح فيه حفظ المعلومات ميسرًا وسهلاً لكل أحد، ولم تعد هناك إشكالية إلا في تعدد القراءات وكثرة التأويلات؛ ما يجعل فحصها وردّ باطلها مهمة شاقة أمام المتخصصين. ومن ذلك يقول تعالى {وَتِلْكَ الْأَمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ ۖ وَمَا يَعْقِلُهَا إِلَّا الْعَالِمُونَ}.

إنني لأتألم حينما أسأل (حافظًا) لكتاب الله كاملاً عن معنى (آية) من القرآن فلا يفهمها، أو يمحض بعدها التربوي على سلوك الفرد وأثرها المجتمعي.. فأقول حينها: ما ضر هذه الجمعيات والمراكز لو جعلت الحفظ جزءًا من برامجها التطويرية، وجعلت شطرًا آخر يستنبطون فوائد الآيات وحكمها، وشطرًا يعربونها نحويًّا، وشطرًا يفسرونها؟ وأي خير أعظم لو قامت هذه الجمعيات بتحفيظ جميع طلابها جزءًا واحدًا من القرآن فقط على مدار العام شاملاً جميع مناحي التدبر من الفهم والتفسير والإعراب واللغة وأسباب النزول والمحكم والمتشابه والوجوه والنظائر والتهذيب والقيم.. ومن ثم تقويم سلوكه بعد ذلك؟ ولقد كانت هذه الأخيرة هي المنهجية الغالبة على الصحابة كما يحكيها عبدالله بن مسعود - رضي الله عنه – قائلاً: "كنا لا نتجاوز عشر آيات من كتاب الله حتى نعلم ما فيها، ونعمل بها". ووالله، إن هذا جماع ما في القرآن: العلم والعمل {فَاعْلَمْ أَنَّهُ لَا إِلَٰهَ إِلَّا اللَّهُ وَاسْتَغْفِرْ لِذَنبِكَ}.

إن القرآن الكريم طريقنا الوحيد إلى الله، وملاذنا العظيم في هذه الدنيا، وهو مؤنس الوحشة، ومُجلي الظلمة، ومزيل الغمة، ومنير العتمة.. فمتى ما تركناه لجمودنا الفكري وانشغالاتنا التافهة ضعنا وحفظه الله. ومن يقرأ التاريخ يدرك أن مقياس حضارة المسلمين بالتحديد كان بقدر اقترابهم من هذا الكتاب الجليل. يقول أحمد الحراني كما جاء في طبقات الصوفية للسلمي: "إني لأقرأ القرآن فأنظر في آية؛ فيحار عقلي فيها، وأعجب من حفاظ القرآن كيف يهنيهم النوم، ويسعهم أن يشتغلوا بشيء من الدنيا وهم يتلون كلام الرحمن؟! أما لو فهموا ما يتلون وعرفوا حقه، وتلذذوا به، واستحلوا المناجاة به، لذهب عنهم النوم فرحًا بما رُزقوا ووُفّقوا". وأي تنوير كان سيخبو عن العالم الإسلامي لو قال الإمام أحمد بن حنبل الكلمة التي جالدوه عليها، إنها كتلك التي ستخبو لو ترك الصديق قتال المرتدين عن الدين. فاللهم أنر بصائرنا، وأجل عنا غشاوة الجهل والكبر.

أخبار قد تعجبك

No stories found.
صحيفة سبق الالكترونية
sabq.org