بلد المليون دكتور؟!!

بلد المليون دكتور؟!!

وددت من هذا العنوان استنتاج أنه في هذه المقالة من المنتظر جدًّا أن يعطي بعض حملة شهادة الدكتوراه موضوع النقاش نكهة وصبغة محليتَيْن، لا صلة لهما بالعلم ولا التعليم، ومن ثم إمكانية التمييز داخل دكاترتنا بين صنفين: الأول يمكن أن يطلق عليه "الدكاترة الأكاديميون"، والثاني "الدكاترة الإداريون"؛ إذ لقب "دكتور" لا يمثل عند الفئة الأولى أي شيء عدا كونه لقبًا علميًّا – مهنيا؛ الأمر الذي لا يستدعي من حامله وجوب أي تغيير في معاملة باقي أفراد المجتمع من المحيطين به على المستوى الاجتماعي، العائلي والمهني؛ لذا من المفيد ترك هذا الصنف جانبًا، وسيتم قصر مقالتنا على الفئة الثانية التي يمثل لقب (حرف الدال) نفسه شيئًا مخالفًا تمامًا لها، أود بسطه وتقييمه (التقويم والمقاومة) من خلال رصد سلوكيات (بعض) دكاترتنا "الإداريين" من خلال أشخاص محددين، نعتبرهم (دكاترة على الورق.. وعقولاً من ورق!!). الإفلاس والفشل دائمًا نتاجهم: كمن يغضب، ويقول لك: نادني بلقب دكتور، إذا قلتَ له: (أبا فلان)!! ومنهم من يعلق شهادة الدكتوراه على حائط مكتبه أو مجلسه، ولا يطور نفسه. وأفشلهم هو من يحس بأنه أعلم من الآخرين.. وأفلسهم من يظن أن لقب "حرف الدال" قبل اسمه أهَّله للفهم، والواقع هو دون فهم.. ومنهم من يتصدى بغباء لمن هو أعلى منه دراية وخبرة بذريعة أنه "دكتور"!! وأفقرهم منهجية هو من يلبس نظارة سميكة؛ ليرى بها العالم في كتاب أُلِّف قبل 1000 سنة، كما أنه لا يعترف بصحة الرأي والرأي الآخر، خاصة إذا كان الآخر ليس دكتورًا؟! لأنه لم يطلع على ثقافة الآخر.. بل أفشلهم إفلاسًا هو من لا يتقن اللغة العربية، أيًّا كان تخصصه.

إذًا شهادة الدكتوراه تعني عند الكثيرين من هذه الفئة "الثانية" وسيلة، بل "غاية" للحصول على وظيفة قيادية مميزة، ومكانة اجتماعية مرموقة لتحقيق ذات "الأنا"؟! المصيبة أن الكثير منهم يعزلون أنفسهم عن المجتمع ومشاكله بحجة التخصص؛ فهم لا يسمحون لأنفسهم بخوض ميادين كثيرة في الحياة، تحتاج إلى أمثالهم للارتقاء بمجتمعنا، ولا يمارسون النقد الاجتماعي، ولا يؤمنون بأعمال التطوع لإصلاح المجتمع، والارتقاء به، وحل مشاكله، وطرح الحلول والمقترحات.. بل يؤسفنا أن من هؤلاء من يمارس النفاق الاجتماعي تزلفًا وتسلقًا لسلطة (ما)؟!.. قبل "سنين فارطة" ضجت وسائل التواصل الاجتماعي بـهاشتاق (#هلكوني)، ويقصد به الشهادات المزورة (المزيفة أكاديميًّا). وما زال هذا "الوسم" ساري المفعول حتى هذه اللحظة. وقد كانت هناك سخرية شديدة من سهولة الحصول على هذه الشهادات، إما بالمراسلة، أو بالشراء.. أو بمعنى آخر بطرق قانونية أو غير قانونية؛ فقرر بعض الناشطين في وسائل التواصل الاجتماعي تقمُّص دور حاملي الدكتوراه؛ لأنها - من وجهة نظرهم - أصبحت أمرًا سهل المنال.. وضج الكثير منهم بالسخرية والتندر على حاملي "حرف الدال". وقد كان هناك السؤال المطروح "المذبوح" أرضًا: ماذا يعني حامل دكتوراه؟ هل هذا يعني أنه شخص ثقة؟ شخص مؤهل؟ شخص متزن؟ شخص منفتح؟.. هذه الأسئلة مختلطة تمامًا بين الحكم على الشخص والشخصية والشهادة التي يحملها.. فهناك الكثير مما يقوله الناس في نقد رأي غير مقبول لحامل شهادة الدكتوراه، خاصة فيما يتردد في تعليقات الناس: دكتور لا يجيد الإملاء؟ دكتور لا يملك منطقًا، دكتور لا يقبل الرأي الآخر، أو لا يفقه شيئًا، أو تكون تصرفاته غير مقبولة!!..

هنا نقول: إن حجم الإضافة التي يُسهم بها حاملو شهادة "الدكتوراه" من هذه الفئة "الثانية"، خاصة الموظفين في قطاعات الأجهزة الحكومية والخاصة، هي إضافة صغيرة جدًّا، بل محدودة مقارنة بأعمال غيرهم من ذوي الخبرة من أقرانهم الموظفين الإداريين الذين يصنعون المعرفة المتكاملة في قطاعات ودواليب الدولة كافة. والجميع يعلم أن حقيقة "الدكتوراه" ليست شهادة أخلاق وثقافة وتربية وتعامل، بل هي شهادة "دكتوراه"، تشهد لحاملها بأنه متخصص في الجزء الصغير جدًّا الذي أضافه للعلم من خلال بحثه العلمي في رسالته، كما أنها تشهد بأنه شخص متمرس في البحث العلمي. إذًا، حامل الدكتوراه يُعتبر خبيرًا في مجال بحثه الذي قام به، وليس في مجال تخصصه كله. (نقطة في نهاية السطر).

ومن الأسئلة المطروحة (المسدوحة) أرضًا:

هل شهادة الدكتوراه دليل للكفاءة دائما؟ هل من حاز الدكتوراه يعني ذلك أنه يمتلك قدرات ذهنية أكبر من إنسان يملك دبلومًا عاليًا أو بكالوريوسًا أو حتى ثانوية عامة؟ إذًا تُعتبر شهادة "الدكتوراه" هي كما قال فيلسوف هذا العصر في مجال علم الإدارة "العالم الراحل" غازي بن عبدالرحمن القصيبي –رحمه الله- في كتابه (حياة في الإدارة): "الدكتوراه لا تعني أن حاملها يمتاز عن غيره بالذكاء أو الفطنة أو النباهة، فضلاً عن النبوغ أو العبقرية، بقدر ما تعني أن حاملها يتمتع بقدر من الجد والصبر، وبإلمام بمبادئ البحث العلمي فقط". وبالتالي الغرور أو الفوقية التي يمارسها البعض بمجرد حصوله على هذه الشهادة (حرف الدال) أصبحت من الماضي.. أصبحت سلوكًا لا يتناسب مع مكانة الشهادة العليا في هذا الزمن. ففوقية درجة الدكتوراه سلوك تجاوزه الزمن؛ إذ أصبحت ظاهرة الزحف المتواصل لدى خريجي الجامعات وكليات الدراسات العليا للحصول على "حرف الدال" في مجال التخصص وغير التخصص عرفًا اجتماعيًّا؛ فأصبح الظفر بلقب "دكتور" غاية لكل من (هب ودب)، (الصاحي والطاحي).. بل منهم من كلف نفسه عناء سنين طوال، وكلف الدولة ميزانية في شهادة وتخصص لا يسمن ولا يغني من جوع؟!! إذ إن أعدادًا كبيرة من حملة الدكتوراه الفارغة (الخاوية من محتواها العلمي التطبيقي) أصبحوا يتكاثرون.. زيادة في العدد، لا تصاحبها زيادة في الرصيد المعرفي والعلمي؛ فحامل هذه الشهادة لا هو في صف مَن طور ذاته وقدراته، ولا أسهم بشكل ملموس في حل قضايا مجتمعه، ولا حتى في مجال عمله الذي يعمل به؟!! أي أن الناتج المرجو في جميع هذه الحالات يساوي "صفرًا مكعبًا"؟!!

قد يرى البعض أننا في هذه "المقالة" نقلل من قيمة أو أهمية الدكتوراه، وأنها ليست ضرورية.. بل نرى العكس. إن من يحب طلب العلم والبحث العلمي سيجد في الدكتوراه ملاذًا حقيقيًّا؛ لأنها ستساعده في تطوير مهاراته البحثية، وإنجاز أبحاثه.. وبالطبع يستطيع القيام بذلك بدونها، ولكنها تحتاج إلى تمارين شاقة للحصول على درجة الاجتياز. الأمر الآخر - وهو الأهم - للذي يبحث عن فرص عمل في المجال الأكاديمي "الجامعات والكليات" بكل تأكيد سيحتاج لشهادة الدكتوراه حتى يتمكن من التدريس، والإشراف، ومواصلة البحث والنشر العلمي.. المسألة ليست مسألة لا قيمة لها، أو لا قيمة للحياة بدونها، بل مسألة قرار واختيار؛ لأن الصورة ليست قاتمة لهذه الدرجة؛ فهناك بالتأكيد من الحاصلين على درجة الدكتوراه يجهدون أنفسهم في التوعية والتنوير، والبحث العلمي، ويسعون إلى تنمية مهارات الابتكار والإبداع التي تنعكس إيجابًا على المخرجات البحثية، والربط بين الجامعة ومناهجها العلمية والأدبية والتنمية والتطوير، ويساهمون في نهضة الأمة، ويساهمون في تقدُّم العلوم وازدهارها.. فهؤلاء هم الذين يحملون شهادة الدكتوراه بحق وجدارة. كما أنهم يواصلون نشاطهم العلمي والبحثي والإبداعي حتى بعد الحصول على شهادة الدكتوراه.. في حين أن البعض يعتقد أن العِلْم والعالَم قد توقَّفا عند شهادته؟! علمًا بأن شهادة الدكتوراه ترمز إلى شيء محدد (تخصص ما)، وهي تعبِّر عن قدرات وفكر وعلم الفرد الباحث في هذا التخصص فقط. وليس بالضرورة أن يتمتع حملة شهادة الدكتوراه بالقدرات العالية والمعلومات والثقافة الواسعة؛ لأن هناك الكثير من العلماء والمثقفين والإعلاميين والمشاهير، وحتى السياسيين.. لم يحصلوا على شهادة "الدكتوراه"!!

أخيرًا.. أين يكمن الخلل إذًا؟ هل في الباحث الجامعي الذي يسعى إلى الكسب بدون العطاء المعرفي والإنتاج العلمي؟ أم في المنظومة التربوية كلها؟ إذا ما سلمنا واعترفنا صراحة بأن "دم" (قطاع البحث العلمي) قد تفرق بين "قبائل" عدة في قطاعاتنا وهيئاتنا الحكومية؟! البعض منها لا يُسهم في تشجيع "الباحث" على البحث العلمي، لا ماديًّا، ولا حتى معنويا؟!!.. فبهذا نخشى أن يصبح وطني "السعودية" بلد المليون دكتور على الورق فقط دون الاستفادة من المحتوى العلمي؟! في ظل عدم وجود حاضنة "هيئة" مختصة وموحدة لدعم وتشجيع الباحث على البحث العلمي وتطبيقاته.. والاستفادة من هذه الأبحاث والدراسات (رسائل الدكتوراه)، والعمل على تنفيذ "توصياتها" التي أقرتها لجان المناقشة في جامعاتنا الحكومية والأهلية العامرة بمبانيها الفاخرة الواسعة والشاهقة؟!!

أخبار قد تعجبك

No stories found.
صحيفة سبق الالكترونية
sabq.org