حذّر الداعية الإسلامي الدكتور عائض القرني، من انغماس عالم الشريعة في السياسة؛ مشيراً إلى أنه إذا اتخذها منهجاً؛ أفسدت عليه علمه وإصلاحه؛ لأن السياسة في غالب أطوارها متلونة متقلبة مخادعة؛ مبيناً أن تحوّل عالم الشريعة إلى مسؤول سياسي وكأنه وزير خارجية لدولة من الدول أو كأنه مندوب أو سفير؛ فهذا خلاف المنهج الصحيح؛ منوهاً ببعض المسائل التي حُبس فيها الأئمة كالإمام "ابن حنبل".
وتفصيلاً، قال "القرني" في مقال عنونه بـ"عالم الشريعة والسياسة":
"بعد رحلة عمرية طويلة طالعت خلالها التاريخ الإسلامي ومذكرات العلماء والمصلحين عبر التاريخ، وقرأت سيرة الأئمة بالتفصيل ومناهجهم العلمية والدعوية؛ خلصت إلى ما خلص إليه الكثير منهم؛ إلى أن عالم الشريعة إذا انغمس في السياسة أفسدت عليه علمه وإصلاحه؛ لأن السياسة في غالب أطوارها متلونة متقلبة مخادعة؛ لأنها تعتمد على المناورة والاحتيال والتدليس والتلبيس، والعلم الشرعي يحتاج إلى صدق ووضوح وصراحة؛ وهذا ما يخالف غالب أطروحات السياسة، وقد وصل لهذه النتيجة في تركيا سعيد النورسي، وتعوّذ من السياسة، وكذلك الأستاذ محمد عبده في مصر، وغيرهم كثير.
ولا أعني بكلامي هذا أن الدين لا يهتم بالسياسة؛ فإن الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم هو الذي أنشأ دولة الإسلام الأولى وتولى خلفاؤه الأربعة قيادة الدولة، والإسلام جاء للدين والدنيا ولسياسة البشر؛ ولكن للسياسة أهلها وروادها وأساطينها الذين يتولونها، ومهمة عالم الشريعة أن يفهم السياسة ويوجه توجيهاً شرعياً؛ ولكنه إذا ذهب للتدخل في كل شأن سياسي والإدلاء بتصريح عند كل حادثة والتعليق على كل مناسبة؛ فمعنى ذلك أنه أصبح محللاً سياسياً ودبلوماسياً؛ وكأن الله أعطاه علم الأولين والآخرين، وهذا ليس بصحيح لا عقلاً ولا شرعاً؛ فإن الناس قدرات، قد علم كل أناس مشربهم.
ولقد قرأت بالتفصيل والتأمل سيرة الأئمة كأبي حنيفة ومالك والشافعي وأحمد والبخاري وابن تيمية والغزالي وغيرهم كثير؛ فرأيت اهتمامهم بالشريعة تعليماً وتأليفاً وتدريساً مع فهم واقعهم؛ لكنهم لم ينغمسوا في حوادث السياسة ومسائل الحكم ودقائق شؤون الدولة؛ حتى إن مسائلهم التي حُبسوا عليها وأوذوا كانت شرعية؛ فأحمد بن حنبل حُبس وجُلد في مسألة القول بخلق القرآن وليست هي سياسية أصلاً؛ بل شرعية، وكذلك أبو حنيفة أُكره على القضاء فرفض وأبتلي، وابن تيمية جادلوه في مسائل في العقيدة ثم آذوه وسجنوه؛ فالذي ينادي الآن وله رجة وصجة ويستحثّ العلماء أن يدخلوا في كل شأن سياسي وأن يشاركوا في كل حدث دولي؛ هذا واهم أو جاهل بالشريعة؛ فمهمة العالم تعليم الشرع وفهم السياسة حتى يعرف واقعه؛ أما أن يتحول إلى مسؤول سياسي وكأنه وزير خارجية لدولة من الدول، أو كأنه مندوب أو سفير؛ فهذا خلاف المنهج الصحيح لدين الله الذي بعث به رسول الله صلى الله عليه وسلم.
ولقد أدركت قمماً علمية وتشرفت بالجلوس عندهم كسماحة الشيخ ابن باز، والشيخ ابن عثيمين، والشيخ الألباني؛ فرأيت اهتمامهم بالنص وتعليم الناس وتدريسهم وتربيتهم على الكتاب والسنة، مع عدم إلمامهم بكثير من شؤون السياسة؛ بل لو سألت بعضهم عن عواصم الدول وأسماء الرؤساء في الدول الشرقية والغربية؛ قد لا يعلمون ذلك، ولا يجب عليهم أن يعلموا ذلك، وليس هذا هو المطلوب منهم، وليس المنتظر؛ ولو فعلوا ذلك وانغمسوا في السياسة لعطل جدهم العلمي وشُلّت حركتهم التصحيحية الإصلاحية، وهذا ما لا نرتضيه لعالم الشريعة؛ فإن عالم الشريعة له من المنـزلة والوقار والمكانة ما يجعله مكلفاً مشرفاً نائباً للرسول صلى الله عليه وسلم في تعليم الناس، مع لزوم الوحي، ويكون طرحه طرحاً علمياً سنياً شرعياً، وليس طرحاً سياسياً فكرياً جدلياً فلسفياً عقيماً سقيماً,
آمل من إخواني أن يتفهموا هذه المسألة وأن يعودوا لسير الأئمة الكبار والمصلحين عبر مسارات التاريخ الإسلامي؛ ليجدوا أن ما قلته صحيح موافق للحق والعدل".