حقيقة، لا أدري أين تذهب بنا الدراما السعودية؟ وما هي بوصلتها؟!! كنا نتأمل أن نشهد حراكًا حقيقيًّا مهنيًّا للدراما؛ ليلامس أولوياتنا وقضايانا وهمومنا، وأن تتفاعل بعمق مع المهددات الداخلية والخارجية التي تواجهها السعودية بطريقة مهنية واحترافية عالية.
بوصفي متخصصًا في مجال "تعزيز الصحة"، الذي يبحث بشكل متعمق في نظريات تعديل المفاهيم والقيم والسلوكيات في المجتمعات، فقد أصبحتُ على قناعة تامة بأن الإعلام أداة قوية، تشكِّل القيم والتوجهات والممارسات لدى الشعوب.. وهو ما تثبته الأبحاث والدراسات.
وأصبحت الدراما، التي تمثل إحدى أخطر الأدوات الإعلامية، أداة بالغة الأثر في تشكيل المفاهيم والتوجهات، بل فكر وسلوكيات المجتمعات.. وهي كما يمكنها أن تهدد السلم الاجتماعي فيمكن أن تؤدي دورًا كبيرًا في تمرير الرسائل الإيجابية لتعزيز الأمن، والحفاظ على النسيج الاجتماعي، والإسهام في تعزيز الجبهة الداخلية، وتعزيز القيم والثوابت الوطنية.. بل تستخدم العديد من الدول، كإيران وتركيا، وقبلهما الدول الكبرى، الدراما لتحقيق العديد من مصالحها، وتمرير أهدافها الأمنية والسياسية والقومية والقيمية.
والمتأمل للدراما السعودية يجدها ذات بوصلة منحرفة عن الاتجاه الصحيح، ومتشربة بصناعة الجهل والبلاهة، بل أصبحت في العديد من الأحيان تمارس بلطجة درامية مؤدلجة مصادمة للعديد من قيم وثقافة المجتمع.
وفي اعتقادي إن بعض مخرجات الدراما السعودية أصبحت تمارس نوعًا من "التضليل الإعلامي"؛ فهي تستخدم - على سبيل المثال - نظرية "حافلة المجتمع"؛ إذ يتم فيها تمرير مفاهيم وأفعال وأحكام مغلوطة أو مصادمة لقيم المجتمع من خلال مجموعة من المواقف والأحكام المسبقة، والجُمل والعبارات؛ لخلق انطباع بأن المجتمع راضٍ عن تلك الأفعال، أو أنها أفعال دارجة في المجتمع، ولا داعي لإنكارها!!
وفي الأدبيات العلمية لمفهوم "التضليل الإعلامي" يمكن استخدام أساليب المراوغة والخداع بدرجة عالية من الإتقان من خلال صنع الحوار المفضي للسلوك المنحرف، وما يسمى بـ"تزييف الحقائق"، ومن ثم تمجيد تلك السلوكيات المنحرفة ومتعاطيها.
على كلٍّ، ها هي الدراما السعودية في هذا الشهر الفضيل تنتهك حرمته، وتفرِّغه من قيمه ومضامينه؛ لتستمر في قولبة المواطن السعودي في هيئة الرجل الساذج والغبي، وتؤسس لصناعة دراما التفاهة والجهل.. والأدهى والأمرّ أن الدراما السعودية تصدر للعالم العربي والإسلامي صورة مشوهة للمواطن السعودي، فإما أن يكون كتلة من الجهل والغباء والسذاجة، أو أنه إرهابي قاتل، أو صاحب علاقات مشبوهة كما يظهره لنا بشكل صارخ مؤخرًا مسلسل العاصوف الذي انتقده الصغير قبل الكبير في مجتمعنا، بما في ذلك عدد من كتّاب الرأي والفنانين والشباب من كلا الجنسين، ومن أطياف المجتمع المتعددة.
والمقزز والمخجل معًا أن فئة من الإعلاميين فتحت الباب على مصراعيه للبلطجة الإعلامية، وتوزيع تهم التطرف وشهادة الزور لمن ينتقد بعض المسلسلات السعودية، بأسلوب أقل ما يقال فيه إنه امتهان لعقلية المواطن السعودي الذي لم يعد ينطلي عليه مثل ذلك.
وفي سياق آخر، كنا نتوقع من هيئة الإذاعة والتلفزيون، ومن خلال القناة الجديدة "إس بي سي" أن تظهر بمنهجية احترافية، تضع في صلب أهدافها التعاطي بكل مهنية مع التهديدات الجسيمة الأمنية والفكرية والسياسية التي تواجهها السعودية وفق منظور متكامل، يعزز القيم الإسلامية والثوابت الوطنية، وإذا بها تتفاخر بشراء حصرية مسلسل مثل "عوالم خفية"، ومسلسل "اختفاء"، اللذين لا يمتان لثقافتنا بصلة، في صفقات يُعتقد بأنها الأضخم في العالم العربي!!
أين دراما الهيئة من مواجهة التهديدات الإيرانية في المنطقة؟ أين هي من جنودنا المرابطين في الحد الجنوبي؟ ألا يستحقون مسلسلاً دراميًّا يبرز تضحياتهم وانتصاراتهم وفق قيمنا وثوابتنا؟ أم أن مسلسلات كـ"بدون فلتر" و"لدينا أقوال أخرى" أولى بتلك الملايين؟!
دعونا نستذكر صورة رجل الأمن السعودي في الدراما السعودية خلال الخمس عشرة سنة الماضية.. كيف يظهر لنا؟ وعلى أي شاكلة؟ وكيف يتحدث؟ أليس الأمر مخجلاً ومحزنًا؟!!
ألا تستحق التضحيات والبطولات التي يقوم بها رجال الأمن في مواجهة التطرف مسلسلاً آخر، يعرض بكل اعتزاز تلك النجاحات والبطولات والإنجازات في قالب درامي مشوق، يبث روح القوة والعزة في المجتمع، ويعزز مكانة رجال الأمن في مجتمعنا؟!!
كما أن قيادة هذا البلد – حفظها الله - تشن حربًا ضارية على الفساد، تبدأ من كبار المسؤولين، فأين الدراما السعودية من ذلك؟ ألم يكن من الأولى أن تكون محاربة الفساد وحماية النزاهة هما المفهوم السائد في الدراما السعودية؟!!
تساؤلات ضخمة لدى الشارع السعودي حيال تغافل الدراما السعودية عن تلك القضايا الحساسة التي تلامس أعماق مجتمعنا.. بل أين هي من تعزيز مفاهيم ورؤية 2030؟!! أمر مقلق للغاية.
ما زلنا نؤمل كثيرًا على الدبلوماسي المحنك معالي وزير الإعلام عواد العواد؛ ليضع حدًّا لهذا السفه الدرامي.. وأكاد أجزم أنه، وبخلفيته الدبلوماسية والسياسية، سينظر بعين الصقر للدراما السعودية؛ لتتجاوز البلطجة والحماقة والتقليد الأعمى؛ لتصبح دراما احترافية، تتوافق مع ثوابتنا، وتعزز اللحمة الوطنية.. ونتطلع منه إلى أن يخرجها من عباءة "جُحر الضب"؛ لتلبس "البشت" السعودي الأصيل المطرز بقيمنا وثوابتنا.
معالي الوزير، من المؤلم حقًّا أن نجد تركيا تقفز بدراما استراتيجية عميقة لترسيخ مفاهيمها ومصالحها لدى شعبها والشعوب الإسلامية؛ لتنتج للعالم العربي والإسلامي مسلسلات إسلامية شيقة، ليس أقلها مسلسل "أرطغرل" الذي هزَّ قلوب ومشاعر المسلمين، وخصوصًا في الدول العربية، حتى أصبحت تتغني ببطولاته وفتوحاته. في حين أن الدراما السعودية لم تصدر سوى مسلسلات على شاكلة (شباب البومب، وشير شات، والعاصوف، وما حولها)!!
لم يعد خافيًا الأبعاد السياسية التركية لتلك المسلسلات، التي تسعى من خلالها لتعزيز مكانتها في العالم الإسلامي. أفلا يجب أن نكون أول من ينافس في هذا الجانب، ونحصل على قصب السبق في ذلك؟ في ظل الهجمة الشرسة الإعلامية المقننة تجاه شعب السعودية وقيادتها.
إذا كان المثل يقول (الصورة خير من ألف كلمة).. فأقول إن الدراما الاحترافية القيمية خير من ألف قناة إخبارية.