تحولت نسائم الصيف في تونس الخضراء إلى عاصفة هادرة بين ليلة وضحاها إثر قرارات رئيس البلاد قيس سعيد بإعفاء رئيس الحكومة، وتجميد عمل واختصاصات البرلمان لمدة 30 يومًا، فضلاً عن رفع الحصانة البرلمانية عن أعضائه، وتولي الرئيس السلطة التنفيذية بمساعدة حكومة يعيّنها لاحقًا.
لم تكن القرارات مفاجئة في ظل انحدار تعيشه تونس على جميع المستويات، وتدهور الحالة الاقتصادية، وانهيار المنظومة الصحية؛ ما حدا بالرئيس التونسي لاتخاذ قراراته الجريئة، إلا أن تلك القرارات – بطبيعة الحال – وجدت مَن يعارضها، في الوقت الذي وجدت فيه ترحيبًا وتأييدًا شعبيًّا؛ لتترك خلفها السؤال الأهم: هل ما حدث انقلاب؟ أم تصحيح للمسار؟
مقدمة الأحداث
ما يحدث في تونس حاليًا هو نتيجة لمقدمة طويلة من الصراعات بين السلطات المختلفة في البلد الخضراء؛ إذ يدور صراع طويل بين الرئيس التونسي قيس سعيد ورئيس الوزراء هشام المشيشي من جهة، وصراع آخر بين الرئيس التونسي ورئيس مجلس النواب راشد الغنوشي.
وتنتهج البلاد منذ عام 2014 نظامًا سياسيًّا هجينًا بين البرلماني والرئاسي؛ ما ساهم في تعميق الخلافات بين رأسَي السلطة فيما يتعلق بالصلاحيات الدستورية. ويحد النظام الذي أقره دستور 2014 من هيمنة رئيس الجمهورية على الدولة، بينما تتوزع السلطة السياسية وفقه على ثلاث مؤسسات، هي مجلس نواب الشعب وهو البرلمان المنتخب مباشرة من الشعب، ورئيس الجمهورية المنتخب أيضًا مباشرة، إضافة إلى حكومة يمنحها البرلمان الثقة.
والصراع الدائر بين الأطراف الثلاثة انعكس على أداء الحكومة وتشكيلها؛ فهناك فجوة كبيرة بين اختيارات "المشيشي" الذي نال ثقة البرلمان بإدارة الحكومة منذ أغسطس 2020، وتوجهات الرئيس التونسي الذي انتقد الأحزاب التونسية في وقت سابق، وفشلها في تشكيل حكومة تدير البلاد.
وانعكس الوضع الضبابي في تشكيل الحكومة، والتوافق عليها وعلى وزرائها، على أوضاع البلاد الاقتصادية والصحية في ظل وباء يضرب بقوته في المسارين؛ إذ تعاني البلاد أزمة اقتصادية خانقة وانكماشًا وصل إلى نسبة 8 % في 2020 لأول مرة منذ منتصف القرن الماضي، بجانب أزمة وبائية خطيرة، تسببت في أعداد قياسية من الوفيات والمرضى في مستشفيات مكتظة ومتداعية.
وشكّل إقالة "المشيشي" لخمسة وزراء محسوبين على تيار الرئيس في الربع الأول من العام الجاري نقطة مفصلية في الصراع بين الرجلين، وهو ما قابله "سعيد" برفض التعديل الوزاري مستندًا في ذلك إلى أن عددًا من الوزراء تحوم حولهم شبهات فساد؛ وهو ما اعتبره المراقبون ليس إلا واجهة لصراع دائر بين الرجلين على الصلاحيات، في ظل نظام حكم هجين بين الرئاسي والبرلماني، لا يمنح الرئيس سلطات كاملة، ولا يمنح رئيس الوزراء هو الآخر الاستقلالية، وذلك في وقت يسعى فيه الرئيس إلى تعزيز سلطاته وإثبات وجوده. ولم يُخفِ "سعيد" رغبته في تعديل النظام إلى رئاسي في أكثر من فرصة.
قرارات دستورية؟
ويستند "سعيد" في قراراته التي أثارت البلبلة إلى الفصل الـ80 من مواد الدستور التونسي الذي يتيح له اتخاذ تدابير استثنائية في أوضاع محددة، مستفيدًا من الاحتجاجات وأعمال الشغب التي اجتاحت عددًا من المدن التونسية في الأيام الماضية.
وقال الرئيس في الكلمة التي أعلن فيها اتخاذه تلك الإجراءات، بعد اجتماع طارئ عقده في قصر قرطاج مع مسؤولين أمنيين وعسكريين، إنه استند في قراراته إلى الفصل الـ80 من الدستور، الذي يسمح بهذا النوع من التدابير في حالة "الخطر الداهم".
وينص الفصل الـ80 من الدستور على أن "لرئيس الجمهورية في حالة خطر داهم مهدد لكيان الوطن وأمن البلاد واستقلالها، يتعذر معه السير العادي لدواليب الدولة، أن يتخذ التدابير التي تحتمها تلك الحالة الاستثنائية". ولكن البرلمان قال إن قرارات الرئيس غير دستورية؛ لأن الفصل يشترط أيضًا استمرار أعمال المجلس، ولا يخول إقالة الحكومة.
وبالرغم من توجسات البعض تجاه القرارات الرئاسية إلا أن الكاتب التونسي سفيان بن مصطفى بن حسين اعتبرها "القشة" التي يمكن أن تنقذ البلاد من الغرق؛ إذ يقول في مقال له: "لا غرو أن يتوجس البعض من تمكين رجل واحد من صلاحيات لا حصر لها، لكن الغريق لا يخشى البلل. نحن الآن نقف على أنقاض وطن، ومن يملك خيمة من صوف في أقصى الصحراء لا يكترث لحدة الزلزال القادم".
مضيفًا: "تونس باتت دولة على حافة الإفلاس بحسب تصريحات لرجال الاقتصاد، وانهارت منظومتها الصحية بحسب تصريح للناطقة باسم وزارة الصحة بسبب تداعيات انتشار فيروس كورونا، وفي الوقت الذي انتظر فيه التونسي خطوات تمنع تغول المصحات الخاصة، وتمنح العلاج المجاني لعموم التونسيين، حول النواب باحات مجلسهم إلى ساحة للملاكمة والسباب"، على حد قوله.
ويرى "ابن حسين" أن الرئيس يمارس سلطاته التي خولها له الدستور، ومنحه الشعب صوته لتحقيقها، مشيرًا إلى أنه يلبي النداء بعد تدهور أوضاع البلاد، فيقول: "الرئيس التونسي اختار الانضمام إلى صفوف الجماهير التي خرجت مطالبة بحل المجلس وإقالة رئيس الحكومة الذي يُحمِّلونه مسؤولية تدهور الوضع الوبائي والاقتصادي في البلاد. ونحن نجافي المنطق حين نتحدث عن انقلاب في تونس؛ فالانقلاب يأتي ممن هو خارج السلطة لا من هرمها. ما يحدث هو تلبية لنداء تكرر في كل ولايات البلاد من بنزرت شمالاً إلى تطاوين جنوبًا. والرئيس الذي انتخبه الشعب بأغلبية ساحقة له الشرعية الثورية والدستورية والشعبية لفرض إرادة الشعب على الجميع، وإعادة المبادرة إلى الشارع".
ووجدت قرارات الرئيس زخمًا شعبيًّا وحزبيًّا كبيرًا؛ إذ قال حزب حركة الشعب الوحدوي الناصري في بيان إن قرارات الرئيس قيس سعيد هي تصحيح لمسار الثورة، واعتبر الحزب أن الرئيس لم يخرج بقراراته عن الدستور "بل تصرف وفق ما تمليه عليه مسؤوليته، في إطار القانون والدستور، حفظًا لكيان الوطن وأمن البلاد واستقلالها، وضمان السير العادي لدواليب الدولة".
بينما خرج المئات من الشعب التونسي في الساحات ابتهاجًا بالقرارات التي وصفت بالثورية، حاملين الأعلام التونسية، ومعبرين عن فرحتهم بعد أيام من الاحتجاجات على الحكومة والبرلمان برئاسة راشد الغنوشي.
من ناحيته، وصف راشد الغنوشي رئيس البرلمان التونسي وزعيم حركة النهضة قرارات الرئيس بـ"الانقلاب على الثورة والدستور"، وقال: "نحن نعتبر المؤسسات ما زالت قائمة، وأنصار النهضة والشعب التونسي سيدافعون عن الثورة"، بحسب ما أوردته رويترز.
الانزلاق إلى الفوضى
ويُخشى على تونس من الانزلاق في مستنقعات الفوضى؛ إذ حذر الصحفي المختص في الشؤون الدولية حمادة عبدالوهاب في اتصال هاتفي، أجرته معه "سبق"، من استغلال الإخوان للاضطراب الحالي، وتحويل البلد الخضراء إلى ساحة للفوضى والحرب. وقال "عبدالوهاب" في تعليقه على المشهد: "لم يستوعب الغنوشي درس ضرورة البقاء خارج الضوء والسلطة، مكررًا تجربة مرسي في مصر في 2012، وأصر على أن يكون رئيسًا للبرلمان، ومنذ ذاك تم شل الحياة السياسية في البلاد".
وتجد قرارات "سعيد" معارضة شديدة من جماعة الإخوان المسلمين؛ إذ رفضت حركة النهضة بزعامة "الغنوشي" القرارات جملة وتفصيلا، واعتصم زعيم الحركة أمام بوابات البرلمان المغلق، قبل أن يمنعه الجيش من دخوله، وذلك في ظل توقعات باحتشاد أنصار القرارات ومعارضيها وجهًا لوجه؛ ما قد يؤدي إلى نتائج لا تُحمد عقباها.
ويقول "عبدالوهاب" في هذا الصدد: "جماعة الإخوان دائمًا ما تراهن على الهبة الشعبية، وهو أمر لن يحدث. والثاني على نشر الفوضى والعنف، وهو ما يحدث بشكل مرحلي، لكن سرعان ما تعود الدولة لتولي زمام الأمور، ويتم معاقبتهم على هذه الأمور مستقبلاً". لافتًا إلى أن الاتجاه إلى العنف جزء من طبيعة جماعة الإخوان، وهو ما يتوقع حدوثه في الأيام القادمة، قبل أن تتمكن الدولة من السيطرة، على حد تعبيره.