في شأن حقوق الوالدين فإن العقوق سيل منهمر من الروايات، فيها ما يحمل العِبر، وما هو مصدر الهام للحاضر والباد.. (فالوالد يحرث فيجوع، والابن يرث فيبيع). عِبَر ينبغي التوقُّف عندها كلما لاح طيف الوالدين تصريحًا وتلميحًا.. فما جاء في أمر بِرّهما حكاية صديقي إسماعيل الصدوق مع والده -رحمه الله-، فما أسداه إليه في آخر أيامه ـ أمامنا في مطلع التسعينيات ـ في زمن الجحود ونكران الجميل.. فاق الوصف.
لا شك أن الملايين أمثاله في أصقاع الأرض تعد نماذج إنسانية يُحتذى بها في بر الوالدين.. فمنهم من حج بوالديه على ظهره، أحدهما الآخر غطاء، وبذلك لم يفِهما حقهما خير الوفاء..
** (إسماعيل) هذا الإنسان الرجل الموظف البسيط لم يجعل ظروفه المادية والأسرية عائقًا لبذل ما بوسعه لوالده في عافيته وحين مرضه حتى استنفد كل رصيد إجازاته، بل زاد إليها إجازة لمدة عام بدون راتب؛ إذ لازمه في مرضه نحو ثلاث سنوات، نصفها في المستشفى فاقدًا الوعي، ونصفها الآخر أو تزيد قليلاً على الحال الصحي نفسها في المنزل، إذ ظل مرافقًا، راعيًا، مُمرِّضًا والده إلى أن لقي وجه الله الكريم.. تعجبون من الخير الذي صبَّه الله صبًّا جمًّا على إسماعيل من أموال وذرية ومناصب.. كان قد حُرم منها ما يربو على عقدين من الزمان.. فسبحان الله العاطي..
يا إسماعيل.. كما تدين تدان.
** أقدم شخص على لطم أبيه أمام أحد المحال بسوق البلدة فهمَّ الناس به إلا أن صاحب الدكان نهاهم عن التدخل بينهما صارخًا: اتركوه.. فقد ضرب هذا الأب والده أمام عيني قبل سنين عدة عندما كنتُ طفلاً مرافقًا لأبي في هذا الدكان، فها هو يتلقى الآن جزاء فعلته أمامكم.. في المكان نفسه، وفي التوقيت ذاته.. (كما تدين تدان).
** ذهب شخص مع ابنه الصغير إلى السوق يشتري فراشًا ولحافًا، فسأله ابنه لماذا هذا الفراش؟ ولمن تشتريه؟ فأجاب ولده بأنه لجدتك، سوف آخذها إلى دار المسنين.. فرد الابن ببراءة: وأنا عندما أكبر سوف أشتري لك فراشًا مثله، وآخذك إلى دار المسنين؛ فتراجع الرجل عن فعلته خشية العقاب.. (كما تدين تدان).
** ثمة رجل ثري تلقى اتصالاً من مدير دار المسنين في بلدته التي يسكنها، يخبره المدير بأن أمه التي تصارع الموت تريد أن تراه، وتُسلِّمه الوصية.. فحضر الرجل على الفور إلى الدار فالتقى أمه وهي في الرمق الأخير.. فقالت له أنا أحبك وأشفق عليك.. أوصيك بأن تشتري للدار مراوح هواء وبرادات مياه.. كما أريدك أن ترمم الدار ثم تصلح دورات المياه فيها، فأجابها مالك ومال الدار وأنت على وشك الموت وحافة القبر.. فلا داعي لطلباتك؛ فأجابته: أريد عندما يلقي بك أبناؤك في هذه الدار ألا تعاني الحر والعطش كما عانيت أنا.. وكي تنعم بهواء المراوح العليل، ومياه الثلاجة الباردة، كما أريد أيضًا أن تستعمل حمامًا يليق بإنسانيتك.. وكذلك بقية مرافق الدار المتهالكة التي تشاطرنا فيها الأفاعي والقوارض والحشرات؛ فخر الرجل باكيًا تحت قدمَي والدته، يطلب منها السماح، ووعدها بتحقيق رغبتها، ثم توفير كل ما طلبته.. كما بشرها بأنه سيتولى رعاية هذه الدار ومَن فيها على نفقته الخاصة طول العمر. كذلك قرر أن يسمي شركاته باسمها، ويضع صورها في المداخل والمرافق اعتذارًا لما بدر منه من مرار في حياتها بسببه.. (كما تدين تدان).
** "البر لا يبلى، والإثم لا ينسى، والديان لا يموت.. فكن كما شئت؛ كما تدين تُدان".