تُمثِّل البطالة مشكلة عالمية، تعانيها معظم المجتمعات، حتى في الدول الغربية ذات الاقتصادات الكبرى التي ترتفع فيها نسبة الدخل تظل قضية توفير الوظائف هاجسًا يؤرق صُنّاع القرار.
والسعودية كغيرها من الدول التي تتأثر بتقلبات الاقتصاد العالمي تعاني قلة فرص العمل مقارنة بأعداد الشباب؛ وتبذل الحكومة جهودًا كبيرة للتغلب على تلك المشكلة، وقدّمت -ولا تزال- العديد من حِزَم الدعم للقطاع الخاص لتشجيعه على تحقيق هذا الهدف، ولكن هل النتائج على أرض الواقع حسب المأمول؟
بدءًا، يجب التشديد على أن مصطلح السعودة لا يعني بأي حال من الأحوال مجرد استبدال العامل الوافد بالسعودي، بل يتسع ليشمل مساعدة الشباب لتأهيلهم وتسليحهم بما يكفي من المهارات والخبرات؛ ليصبحوا أكثر كفاءة وقدرة على المنافسة. وهذا ما ينبغي أن يشارك فيه القطاع الخاص بفاعلية، ولاسيما في ظل الدعم الذي يجده من الدولة التي بادرت خلال الفترة الماضية إلى التكفل بدفع جزء من رواتب الشباب لتشجيع استيعابهم.
وبالنظر إلى الذرائع التي يرفعها بعض رجال الأعمال نجد أن معظمها مجرد انطباعات، ظلت تعشش في الأذهان، وينبغي أن تنتهي إلى غير رجعة؛ فلا مجال للتمسك بالمفاهيم الخاطئة بأن الشباب السعودي لا يتمتع بالجدية، ولا معنى لافتعال المشكلات والأزمات لتنفيرهم، وتكليفهم بأعمال شاقة لا تتناسب مع مؤهلاتهم، ومنحهم مخصصات ورواتب زهيدة. فعندما يتعلق الأمر بمصالح الوطن ومستقبل أجياله تتلاشى الاعتبارات الذاتية والأهداف الخاصة والمكاسب الوقتية.
وقد يرى البعض أن هذا الحديث مجرد عاطفة لا صلة لها بالواقع، لكن بنظرة سريعة إلى التقرير الذي أصدرته الهيئة العامة للإحصاء مؤخرًا يثبت حجم التحديات التي تنتظرنا في هذا الملف الشائك؛ فبيانات التقرير تؤكد ارتفاع نسبة الشباب الذين هم في سن العمل وسط السكان؛ وهو ما يشير إلى أن مستقبل هذه البلاد سوف يكون مشرقًا -بإذن الله- إذا تمكَّنا من استخدام هذا الكنز البشري بصورة مثلى؛ لأن زيادة عنصر الشباب تعني ارتفاع القدرة على العطاء والإنتاج؛ فالقوى العاملة هي أهم عناصر التقدم الاقتصادي، وأثمن ما تملكه الأمم.
أما فيما يتعلق بنسبة البطالة فالأرقام تشير إلى أن المعدل بلغ خلال الربع الأول من العام الحالي 11.7 % مقارنة بـ 11.8 % خلال العام الماضي، و12.5 % لعام 2019، فيما كان 12.9 % عام 2018. ومع التسليم بحدوث انخفاض في مؤشر البطالة إلا أنه طفيف، ولا يتوازى مع حجم الجهود المبذولة.
هناك جانب آخر، لا ينبغي تجاهله، هو أن هذا الارتفاع في التوظيف قد يكون ناتجًا من رغبة الطلاب في شغل تلك الوظائف (موسميًّا) بعد أن أصبحت الدراسة عن بُعد بسبب جائحة كورونا، واستغلال ذلك من قِبل التجار لاستيفاء نسبة السعودة. وبعد استئناف الدراسة حضوريًّا، وعودة الطلاب إلى صفوفهم الدراسية خلال الأيام المقبلة، نخشى من عودة مؤشر البطالة للارتفاع مجددًا.
المؤسف أن كثيرًا من متخذي القرار في القطاع الخاص ما زالوا يحجمون عن توظيف الشباب بدعاوى مختلفة، منها عدم حصولهم على المهارات المطلوبة. وهي حجة واهية بدليل أن الذين عادوا من الابتعاث الخارجي بعد حصولهم على شهادات علمية رفيعة من جامعات مرموقة يواجهون المشكلة نفسها بذريعة عدم حصولهم على الخبرة اللازمة. فإذا كنا نرفض توظيفهم وإتاحة المجال أمامهم للعمل فكيف يمكنهم الحصول على سنوات الخبرة؟
ومن المعالجات أيضًا لتخفيض مؤشر البطالة تغيير المقررات الدراسية النظرية التي ما زالت بعض جامعاتنا تتمسك بها، واستبدالها بمناهج مهنية وفنية، يتم تدريسها بصورة عملية. فالواقع الذي نعيشه، والظروف المحيطة بالاقتصاد العالمي الذي يحاول التخلص من تداعيات انتشار فيروس كورونا، تتطلب أن نكون أكثر إدراكًا للاحتياجات الفعلية لسوق العمل، بدلاً من بذل الجهد لتدريس مواد تُكسب الخريج مجرد شهادة.
هناك جانب آخر، هو أن بعض شركات القطاع الخاص تقوم باستيعاب السعوديين في وظائف هامشية، لا يسمح دخلها المالي بتكوين أسرة والإنفاق عليها. وقد فطنت السلطات المسؤولة لذلك؛ إذ أشارت الأنباء إلى اتجاه مجلس الشورى لتعديل نص الفقرة الثانية من المادة الـ(26) في نظام العمل لتوطين القيادات بنسبة 75%؛ وذلك لتقليل استحواذ العمالة الوافدة على الوظائف القيادية التي يوجد سعوديون مؤهلون لها.
أبناؤنا مسؤولية في أعناقنا؛ علينا أن نحتضنهم، ونساعدهم للإسهام في تنمية الوطن، وأن نسعى إلى تطويرهم وصقل مهاراتهم ما دمنا نرجو منهم الكثير. فإن لم نفتح لهم قلوبنا، ونساعدهم على اكتساب العلوم والمعارف والخبرات، فلن يجدوها عند غيرنا، ولن نستطيع القضاء على آفة البطالة التي أقضت مضاجعنا.