في 4 يناير 1809م، وفي مدينة كوبفراي شرق العاصمة الفرنسية باريس؛ فَقَد طفل في الثالثة من عمره إحدى عينيه بعد إصابتها بآلة حادة، وبعد عامين فَقَد عينه الأخرى بسبب مرض الرمد. هاتين الحادثتين المؤثرتين كانتا بداية إضاءة الطريق نحو اختراع عظيم للبشرية لمساعدة الكفيفين على الرؤية ومواصلة الركض في ميدان الحياة.
قبل أيام وتحديداً في الرابع من يناير 2019م ولأول مرة، احتفى العالم باليوم العالمي للغة برايل، وكانت الجمعية العامة للأمم المتحدة قد اعتمدت القرار 161/73 في نوفمبر 2018، بإعلان يوم 4 يناير يوماً عالمياً للغة؛ اعترافاً بأن تعزيز حقوق الإنسان والحريات الأساسية في سياق الوصول إلى اللغة المكتوبة؛ شرط أساسي حاسم للإعمال الكاملة لحقوق الإنسان للمكفوفين وذوي الرؤية الجزئية.
توقعات مخيفة:
هذا الاحتفاء والمطالبة بالدعم له ما يبرره؛ فتقديرات منظمة الصحة العالمية، تشير لوجود أكثر من مليار شخص يعانون شكلاً من أشكال إعاقة الرؤية، وهناك أكثر من 39 مليون شخص مصابون بالعمى، و253 مليون شخص يعانون من ضعف في الرؤية، وأنه في 2020 يُتوقع ارتفاع نِسَب فقدان البصر إلى 75 مليوناً؛ منهم في العالم العربي 7 ملايين سيفقدون بصرهم أو سيعانون من إعاقة في أحد أشكال الرؤية.
الصبي الأعمى وقصة اختراع عظيم:
وقد تم اختيار يوم 4 يناير من كل عام؛ حيث يوافق هذا التاريخ يوم ميلاد الفرنسي لويس برايل عام 1809، مخترع الكتابة بطريقة برايل، التي سميت على اسمه. وقد أحدث برايل بها ثورة في حياة فاقدى وضعاف البصر؛ باختراعه نظاماً للقراءة والكتابة يعتمد على فكرة الست نقاط البارزة.
وعودةً إلى قصة بدايات الاختراع؛ فقد تَمَكّن الصبي الصغير من التأقلم مع وضعه، وبدأ يتعلم السير على طرقات مدينته الصغيرة بفضل العصا التي صممها والده. هذا الصبي هو المخترع الفرنسي لويس برايل، الذي درس في إحدى المدارس الفرنسية، وكان متفوقاً في دراسته، ولم يوقفه فقدان بصره عن إظهار مواهبه العلمية. وبسبب تفوقه حصل وهو في العاشرة من عمره على منحة في باريس في أحد معاهد المكفوفين المخصصة للمتفوقين؛ فواصَلَ تفوقه العلمي.
كان "برايل" ذكياً وموهوباً؛ فطوّر بعض الطرق البسيطة لتعليم الطلاب المكفوفين القراءة في المعهد؛ ليستوحي منها فكرة طريقة "كتابة برايل". وليس هذا فقط؛ وإنما اعتمد على بعض الطرق والأساليب التي يستعملها الجيش الفرنسي في المراسلة كنوع من الشفرات غير المفهومة؛ ولكن برايل قام بتعديل هذه الطرق ليصل في النهاية لطريقة "كتابة برايل" الشهيرة؛ مختصراً حروفها الـ12 إلى (6) حروف فقط.
طريقة برايل نشرت عام 1839، ولم تُستخدم هذه الطريقة البسيطة رسمياً إلا بعد وفاة صاحبها الفرنسي لويس برايل بـ14 عاماً في فرنسا. واستخدمتها بريطانيا بعد مرور 30 عاماً على ابتكارها، ولم تستخدم الولايات المتحدة هي الأخرى هذه الطريقة إلا بعد مرور 21 عاماً على اختراعها.
أسبقية عربية:
هذا فيما يذهب البعض لاعتبار العربي زين الدين الآمدي، سابقاً لبرايل في تعليم القراءة لغير المبصرين؛ لكونه أول من ابتكر حروفاً بارزة تساعدهم على القراءة. و"الآمدي" ولد في مدينة "آمد" التي تقع بالقرب من ديار بكر شمال العراق، وانتقل إلى بغداد؛ فبقي بها إلى وفاته في أواخر القرن الثامن عشر الميلادي. وهو بدوره أصيب بالعمى؛ فلم يستسلم فسعى للعلم والتجارة وكان مهندساً وفقيهاً. وفي سبيل بحثه عن المعرفة التي تساعده ومن خلال عمله في بيع الكتب، كان يأخذ بقطعة من الورق الخفيف ويقوم بفتلها بطريقة معينة ثم على هيئة حرف أو أكثر من حروف الهجاء؛ ليحدد بها سعر الكتاب. وطور قدرته حتى إنه كان يستطيع أن يحدد نوع الخط وما إذا كان لكاتب واحد أو أكثر مهما تعددت أنواع الخطوط، كما كانت له القدرة على تحديد لون الحبر المكـتوب به.
أسس كتابة "برايل":
وتقوم كتابة برايل في الأساس على ست نقاط أساسية، ثلاثة على اليمين وثلاثة على اليسار. ومن هذه النقاط الست تتشكل جميع الأحرف والاختصارات والرموز. ومع دخول الكمبيوتر إلى عالمنا دخل نظام الثماني نقاط في نظام الكمبيوتر؛ ليعطي مجالاً لاستيعاب أكبر عدد ممكن من الإشارات والرموز؛ ولكن هذا النظام ظلّ مستخدما فقط في الكمبيوتر، ولم يوسع ليستعمل في غيره.
وقد قامت منظمة التربية والعلوم والثقافة "اليونسكو" التابعة لهيئة الأمم المتحدة في عام 1951 بتوحيد الكتابة النافرة؛ بقدر ما تسمح به أوجه الشبه بين الأصوات المشتركة في اللغات المختلفة، ونتج عن هذه الحركة النظام الحالي للرموز العربية. وتقوم كتابة (برايل) في الأساس على 6 نقاط أساسية 3 على اليمين و3 على اليسار، ومن هذه النقاط الست تتشكل جميع الأحرف والاختصارات والرموز. وقد استفاد المختصون بطريقة بريل باللغة العربية من بحوث الدول العربية المتقدمة في هذا المجال من حيث جعل الكتابة البارزة سهلة.
لغة برايل والتقنية:
ومن أهم أنواع الكتابة على طريقة بريل، طريقة اللوحة والقلم: تُستعمل في هذه الطريقة اللوحة والمسطرة والقلم للمتعلم الجديد المبتدئ عند تعلمه الكتابة. والطريقة الثانية هي (طريقة الآلة)؛ حيث تعتبر هذه الطريقة أسرع وأسهل من طريقة اللوحة والقلم، كما أن الكتابة من خلالها تتم من اليسار إلى اليمين؛ حيث يتم استخدام الآلة الخاصة بطريقة بريل. ومن مميزات الكتابة باستخدام هذه الآلة؛ أنها تُفسح المجال لمراجعة كل ما يكتب فيها.
ومع دخول الكمبيوتر دخل نظام الـ8 نقاط في نظام الكمبيوتر؛ ليعطي مجالاً لاستيعاب أكبر عدد ممكن من الإشارات والرموز؛ ولكن هذا النظام ظل مستخدماً فقط في الكمبيوتر ولم يوسع لغيره، وتتم طريقة قراءة هذه الأحرف من اليسار إلى اليمين. أما الآن فقد حققت التكنولوجيا تطوراً هائلاً بالنسبة للمكفوفين من خلال التطوير في تقنيات الحاسوب الذي يقوم بتحويل الكتابة العادية إلى طريقة برايل على أسطر إلكترونية من خلال برامج قراءة الشاشة؛ بحيث يستطيع الكفيف قراءة ما يعرضه من معلومات ومعارف بسهولة تامة. ومنذ عام 1277هـ/1860م أدخلت على طريقة برايل تعديلات وإصلاحات كثيرة، فانتشرت طريقته بعد ذلك في كل مدارس المكفوفين في العالم. كما كان من الطبيعي التسارع الكبير في تقنيات تستخدم لغة برايل وصلت لاختراع ساعة ذكية وأجهزة كمبيوتر لوحية.
نشاط دعم لغة برايل في السعودية:
وفي إطار التطرق للدعم السعودي المستمر ووضع ذوي الإعاقة البصري تحت الرعاية؛ فإن الحكومة السعودية تعمل بشكل متسارع في هذا الجانب لتقديم كل أشكال العون والدعم لذوي الاحتياجات الخاصة؛ ومنهم فئة أصحاب الإعاقة البصري. ويمكن الإشارة إلى التالي -فيما يخص محور هذا الملف- على سبيل المثال لا أكثر: طباعة دليل خاص بلغة "برايل" في أهم وسائل النقل وأبرزها الخطوط الجوية العربية، وكذلك تشجيع الجمعيات التي تُعنى بهذه الفئات ومنها جمعية "كفيف" التي تبذل جهوداً مكثفة وكبيرة يمكن الاطلاع عليها من خلال زيارة موقعها. وترتبط مثل هذه الجمعيات بشكل وثيق بجهات الدعم مثل المستشفيات والجامعات والبنوك ومؤسسات المجتمع المدني.
بالإضافة لما تقوم به العديد من الجهات السعودية من طباعة للقرآن الكريم بطريقة برايل مثل مجمع الملك فهد لطباعة المصحف الشريف؛ حيث تم طباعته بلغة برايل في خمسة مجلدات، كما أن هناك مبادرات مجتمعية لا تتوقف مثل مبادرة فِرَق "برايل بوكس"؛ لمساعدة فاقدي البصر في مواصلة دراستهم الجامعية، عبر تحويل المناهج إلى طريقة "برايل"، التي يستطيع المكفوفون قراءتها. وتتعاون معهم الجامعات في أنشطتهم لمساعدة الطلبة المكفوفين الدراسين في كلياتها.
تحذيرات:
التفاؤل مطلب؛ ولكن التحذيرات موجودة. يقول تقرير نشرته (د ب أ): "يحذر الاتحاد العالمي للمكفوفين من إهمال طريقة برايل في ضوء الإنجازات العلمية الحديثة؛ حيث أعرب الاتحاد في بيان له عن قلقه من احتمال تراجع دعم تدريس هذه الطريقة واستخدامها بسبب الاعتقاد بأن تقنيات مثل الكتب الإلكترونية والكتب السمعية وتطبيقات قراءة الشاشة يمكن أن تحل محلها".
ويؤكد البروفيسور توماس كاليش رئيس المكتبة المركزية الألمانية للمكفوفين في مدينة لايبتسيج، وهو أيضاً عضو في الاتحاد الألماني للمكفوفين وضعاف البصر، أنه برغم أن عالم الوسائط المعلوماتية اليوم أصبح يوفر للمكفوفين الكثير من الإمكانيات الجديدة؛ إلا أنه: "ليس هناك في الواقع بديل عن هذه الكتابة"؛ مشيراً إلى أن لغة برايل وإجادتها هي الطريق الوحيدة لاستخدام التقنية الداعمة في هذا المجال.