الدرعية عز السعوديين وملفاهم

تم النشر في

مرة أخرى يعود التاريخ إلى الوراء، ويستعيد ذكرى النهضة العلمية والثقافية التي امتازت بها الدرعية قبل أكثر من 300 عام عندما شهدت ميلاد الدولة السعودية الأولى على يد المغفور له - بإذن الله - الإمام محمد بن سعود في حدث استثنائي فريد ومنعطف تاريخي بالغ الأهمية، عندما تنادى العلماء والمثقفون والمفكرون وقاموا بإرساء دعائم الدولة الجديدة، وتمكّنوا من إحداث طفرة علمية غير مسبوقة، حيث برزت مدارس جديدة في الخط وعلوم اللغة والفقه، إضافة للعديد من المؤلفات والمخطوطات التي لا زالت تشهد على ذلك التاريخ المضيء.

وإن كانت الدرعية قد خطفت أنظار الجميع في ذلك الوقت واجتذبت اهتمامهم فإنها تسترجع اليوم خطوات التاريخ إلى الوراء، وتعيد نفس التميز والألق بعد أن أصبحت محط الأنظار وهي تحتفي بموسمها الفريد تحت شعار "عزك وملفاك" الذي يمثل تجسيدا لمفهوم الالتقاء الثقافي. ومثلما ارتبطت في الماضي بعز السعوديين فإنها الآن محط أنظارهم وأشواقهم وملتقاهم، بعد أن تدافعوا نحوها للاستمتاع بهذا الموسم الذي يمزج بين الترفيه والثقافة، ويؤكد أن التراث هو الرهان الرابح.

وللحقيقة فإننا في هذا العصر الزاهر الذي نعيشه تحت قيادة خادم الحرمين الشريفين الملك سلمان بن عبد العزيز وولي عهده الأمير محمد بن سلمان – حفظهما الله – نحظى برؤى سديدة جعلت الترفيه جزءا أساسيا من حياة السعوديين وثقافتهم ضمن مساعي تعزيز جودة الحياة. ومما يزيد من مقدار الروعة أن هذا الاهتمام يقوم على الموازنة بين الاحتفاء بالأصالة واستصحاب المعاصرة.

هذه الرؤية تهتم بتوفير جميع الخيارات أمام المواطن والمقيم، وهو ما يشهد به موسم الدرعية الذي يمتاز بثرائه الثقافي وعمقه الفكري وغزارة معلوماته. فالداخل إلى الدرعية هذه الأيام يقف مشدوها وتتسارع دقات قلبه وكأن آلة الزمن قد عادت به مئات الأعوام إلى الوراء، فالمكان ينبض بحياة الأسلاف الكرام ويصف لنا بدقة مقدار ما كانوا يتمتعون به من استثنائية وتميّز، ويؤكد أن مكانتنا في خارطة الحضارة الإنسانية كانت دوما في المقدمة.

ويتجلى هذا الثراء المعرفي الكبير في تنوّع معارض الموسم العشرة، ففي معرض "هل القصور" بحي الطريف يجد الزوار أنفسهم في قلب قصور الأمراء والأئمة ليعيشوا أجواء الحياة الاجتماعية والثقافية آنذاك من خلال سرد قصصي وتجارب تفاعلية تعزّز استيعابهم للسياق التاريخي للدرعية.

وفي "مهرجان طين" يقف المرء مبهورا وهو يشاهد فنون العمارة النجدية التقليدية والبناء الطيني ويرى بعينيه الاهتمام بمفاهيم الاستدامة في البناء واستخدام المواد الطبيعية التي تتوافق مع البيئة المحلية ولا تتصادم معها.

أما حي البجيري الذي يمثل جوهرة المكان فهو ملتقى الكتاب والمثقفين الذين يشاركون في نقاشات ثقافية وفكرية متعمّقة وأمسيات تفاعلية تمزج بين تقاليد السرد القديمة ووسائله الحديثة والمتطوّرة لتثري مسامع الحضور.

وعندما تصل أقدام الزائر إلى حي "المريح" فإنه أمام فرصة سانحة لالتقاط الأنفاس والاستمتاع بليالي الدرعية التي تمثّل تجربة استثنائية حافلة بالرقي والفخامة تمتزج فيها الثقافة والموسيقة الحيّة بالمأكولات الفاخرة والتسوّق.

ولأن الموسم يستوعب كافة شرائح المجتمع فإن حي الظويهري الذي يقع بين البجيري والمريح يتيح للأطفال العديد من الفعاليات التي تعرّفهم بحضارة أسلافهم بطريقة عملية ممتعة تربطهم بإرثهم العريق وماضيهم المجيد وتوثّق انتمائهم وهويتهم.

ولا يمكن بطبيعة الحال الحديث عن كل عناصر جمال الدرعية في مثل هذه المساحة، فالموسم يحتاج إلى تكرار الزيارة عدة مرات لاستيعاب حقائقه والتعرف على أسراره، فهناك معارض "سوق الموسم" و "منزال"، و"صدى الوادي"، و"سمحان"، وكل منها ينافس الآخر في البهاء والألق.

لكن ما يهمني حقيقة هو الإشارة إلى أن موسم الدرعية ليس مجرد مناسبة ثقافية أو ترفيهية، بل هو تجربة فعلية تؤكد قدرة الإنسان السعودي على الإجادة والابتكار وتحقيق النجاح، وأننا قادرون على تعريف الآخرين بمنجزاتنا الفريدة التي أسهمت كثيرا في ترقية الحضارة الإنسانية.

صحيفة سبق الالكترونية
sabq.org