أعتقد أن من أقدم الكلمات على سطح الأرض كلمتي "نعم" و"لا"، وهما من أكثر الكلمات التي تحتاج لتفكير قبل النطق بها.
نفكر في كلمة "نعم"، تلك الخضراء الناعمة الدافئة، التي تملأ النفس غبطة وسرورًا، وتُشعرنا بالطواعية واللين والانشراح، وتُحيي فينا الرضا والحبور والطمأنينة.. وقد يُتهم صاحبها بالشخصية الضعيفة.
في حين أن كلمة "لا" لم تكن بهذا الجمال والحلاوة، ويوصف صاحبها بالشخصية القوية!!
بعيدًا عن اللين الزائد بقولنا: "نعم"، والشدة الزائدة بقولنا: "لا"، لا بد أن يكون هناك توازن بين "نعم الكبيرة" ولاءاتنا المتكررة، رغم أن "لا" حروفها أقل من "نعم"، وتكلفتها أكبر!!
قال ابن خلدون: "كوارث الدنيا بسبب أننا نقول: نعم بسرعة، ولا نقول: لا ببطء".
قول "نعم" لكل شيء ليس بالفكرة الجيدة؛ فكم من مرة قلت فيها "نعم" ثم بعد دقائق فقط تتمنى لو أنك قلت "لا"، ولكنك تجد أن الوقت فات، ولا مجال للتراجع؛ فتصبح بعد ذلك حزينًا متوترًا.. يقول أحد الشعراء:
إذا قلت في شيء "نعم" فأتمه
فإن "نعم" دين على الحُر واجب
هكذا قيمة "نعم أو لا" وظرفيتهما. وتظل كلمة "لا" هي محور حياة الإنسان في أكثر مواقفه؛ فحياته كلها صد وجفاء وغلظة وهجران.. ومثل هذا الإنسان لا يستمر معه صديق، ولا يستقيم له حياة؛ لأنه إنسان سلبي مرتد إلى الخلف، لا يعرف كيف يعامل الناس، ولا أن يتقدم منهم خطوة. ولا نعمم القول في ذلك؛ فهناك مَن يتعامل مع هاتين الكلمتين بميزان العقل.
وقد تجتمع الكلمتان في إجابة واحدة، ولكنها تحمل معنى النفي، كقولك: ألم تقصد من كلامك الإثبات؟!
فتقول مجيبًا: نعم. لا أقصد من كلامي الإثبات، بل النفي.
وكي لا ننفي مواقف البعض الموزونة والمتوازنة بين الإيجاب والسلب، والتقدم والتأخر، والقبول والرفض، والنفي والإثبات؛ حتى تظل مطالبه موزونة ومتوازنة، بل إنه حتى في الشهادتين اللتين هما عماد عقيدتنا الإسلامية السمحاء فإننا نبدأ الجملة بالنفي فنقول في شطرها الأول: (لا إله)، ثم نتبعها مباشرة بإثبات وتوكيد، بقولنا: (إلا الله)، فهكذا الحياة لا تستقيم إلا بتوازن الأضداد، وبالاختلاف مع التنوع.
يقول الفرزدق في مدحه علي بن الحسين:
ما قال "لا" قط إلا في تشهده
لولا التشهد لصارت لاءه "نعم"!!
ما أصعب أن تقول: "لا" وأنت في شدة، أشد حاجة لقول "نعم".. تلك هي قوة الرفض!!
وما أكثر اللاءات في كلامنا، كقولنا: لا للظلم، لا للمخدرات، لا للعنصرية.. ولو وجدت أن طلبات الآخرين تتعارض مع جدول مواعيدك الخاصة قل "لا" فورًا. والإنصاف مطلب؛ فالزوج عليه أن يستقبل لاءات زوجته بكل احترام، والزوجة عليها تفهُّم لاءات زوجها بعين ثاقبة.
هناك كاتبة تُدعى كورين سويت قالت: "أن يقول الشخص "نعم" على الدوام فهذا لن يجعله هو نفسه سعيدًا، بل عادة يشعر بأنه مهمل، ولا أحد يهتم به، وهذا طبيعي؛ لأن اهتمامه كله مصبوب على إرضاء الآخرين؛ فيُفاجَأ أن لا أحد يحاول أن يرضيه حتى نفسه".
وينطبق هذا الكلام على المثل السائر "رضا الناس غاية لا تدرك"، ومهما حاول الإنسان إرضاء الآخرين، بصرف النظر أهو صح أو على خطأ، فإن هذا الآخر يحكم عليك وعلى سلوكك.. فصديق اليوم قد يكون عدوك في المستقبل.
وزبدة الكلام في هذا المضمار أن لا نترك الآخرين دون مساعدة مشروعة.
يقول قائل: أن تقول "نعم" لكل شيء يعني أن تقول كلمة "لا" لأشياء أخرى.. فمن لا يقدر كلمة لا لاتهتم به، ولكن عليك أن تلبسها بعبارة جميلة، وأن تكون لبقًا في الرد، كقولك: لا.. شكرًا، أو: لا أود القيام بهذا الآن، أو: أود مساعدتك، ولكنني مشغول جدًّا اليوم، أو: أنا لست مهتمًّا بالأمر، شكرًا لك.
"نعم" تقال بعد وزنها وتقييمها ومعرفة أسبار ظرفها، فكلمة "نعم" خضراء بطبيعتها، وتعني كلمة "دخول"، بعكس كلمة "لا" التي تعني كلمة "هروب". فالأولى إيجابية، والأخرى سالبة، وهذا يعطي كلمة "نعم" من التبعات والمسؤوليات ما يجعلنا نفكر فيها قبل أن ننطقها، حتى إذا ما قلناها أصبحت كما نقول -نحن في السعودية- "مسمار جحا".
لقد قررت ألا أقول "نعم" إلا عندما أكون متأكدًا من إمكانية وفائي بما يترتب على الموافقة، وسأقول عند التردد: سأفكر في الأمر.. سأعطيك الجواب قريبًا.. وأنتم ماذا قررتم؟!!