كارثة التباهي بالثراء على المجتمعات
يُعد المال نعمة عظيمة وهبة من الله، وهو وسيلة لتحقيق الاستقرار والعيش الكريم وتلبية الاحتياجات وتحقيق الطموحات. غير أن هذه النعمة تتحول إلى نقمة إذا تم استخدامها في غير موضعها، وخاصة حينما يُسرف بعض الأثرياء وأصحاب الثروات الكبيرة في استعراض قصورهم الفارهة، وطائراتهم الخاصة، وممتلكاتهم الفاخرة أمام عامة الناس. هذه الظاهرة، التي باتت أكثر وضوحا في عصر وسائل التواصل الاجتماعي، تعتبر خطراً حقيقياً على المجتمعات، ليس فقط لأنها تثير مشاعر الحسد أو الغيرة، بل لأنها تقتل المتعة البسيطة في حياة الآخرين وتجعلهم يعيشون في دوامة لا تنتهي من المقارنات.
المجتمع السليم هو الذي يشعر أفراده بالرضا بما لديهم من نعم، مهما كانت بسيطة. غير أن صور القصور المذهلة والسيارات الرياضية النادرة والرحلات الفاخرة تجعل كثيرا من الناس يتوقفون عن الاستمتاع بما بين أيديهم، مهما كان مناسبا لهم. فيتحول الرضا إلى سخط، والقناعة إلى مقارنة مرهقة، والسعادة اليومية إلى بحث مستمر عن المزيد. إن التباهي بالثراء يجعل الفرد البسيط يرى نفسه أقل شأناً، ويشعر وكأن حياته تفتقر إلى القيمة، رغم أن ما يملكه قد يكون كافياً لراحة باله وعيش حياة كريمة.
الأخطر من ذلك أن الاستعراض الزائد للثروة قد يغرس في نفوس الشباب والمراهقين على وجه الخصوص فكرة أن المال وحده هو معيار القيمة الاجتماعية، وأن النجاح لا يقاس إلا بامتلاك المظاهر المبهرة. هذه الرسالة الخطيرة قد تدفع البعض إلى البحث عن طرق غير مشروعة للثراء السريع، مثل السرقة أو النصب أو ترويج المخدرات أو أي وسائل غير أخلاقية. والسبب في ذلك أنهم يظنون أن الوصول إلى مستوى من يستعرضون ثرواتهم هو الهدف الأسمى، غير مدركين أن كثيراً من هؤلاء لم يحصلوا على أموالهم بكد أو اجتهاد، بل جاءتهم عن طريق الوراثة أو ضربة حظ غير مخططة.
من يملك المال الكثير مؤتمن على هذه النعمة، تماماً كما يُؤتمن الإنسان على صحته أو علمه. غير أن تحويل المال إلى أداة للتباهي يتعارض مع هذه المسؤولية. فبدلاً من أن يستثمر الغني أمواله في مشاريع تنفع الناس، أو مبادرات خيرية تدعم الفقراء والمحتاجين، أو حتى في تنمية مجتمعه، نراه ينفق بسخاء على مظاهر فارغة لا تضيف قيمة حقيقية. إن غياب هذا الشعور بالمسؤولية يحول المال من وسيلة للبناء إلى أداة للهدم.
التباهي بالثراء لا يقتصر أثره على الأفراد فقط، بل يمتد ليصيب التكوين الاجتماعي بأكمله. إذ يزرع الفجوة بين الناس، ويعمق الإحساس بالحرمان عند الفقراء، ويزيد الاحتقان الذي قد يتطور إلى كراهية أو عداء.
في المجتمعات التي يكثر فيها هذا التباهي، يختفي التضامن والتكافل، لتحل محلهما مشاعر التباعد الاجتماعي والأنانية وحب الذات.
ديننا الإسلامي الحنيف وضع ضوابط واضحة للتعامل مع النعم. قال الله تعالى: وأما بنعمة ربك فحدث وهذا الحديث بالنعمة لا يعني التفاخر أو استعراضها لإثارة الغيرة في قلوب الآخرين، بل يعني الاعتراف بفضل الله وشكره وإظهار أثر النعمة بالخير والعطاء. كذلك حثنا النبي صلى الله عليه وسلم على حفظ النعمة وصونها من الزوال، ونهانا عن الإسراف والتبذير.
قال الله تعالى:( كلوا واشربوا ولا تسرفوا إنه لا يحب المسرفين ) فالتباهي المبالغ فيه نوع من الإسراف الذي لا ينفع صاحبه ولا ينفع الناس.
المطلوب اليوم من أصحاب الثروات أن يدركوا أنهم قدوة، وأن ما يفعلونه أمام الناس له تبعات نفسية واجتماعية. الثري الحقيقي ليس من يُظهر ممتلكاته ليشعر الآخرون بالنقص، بل من يستثمر ما عنده ليبني جسور الخير والعطاء. إن أعظم صور الاحترام للنعمة أن تُستخدم في خدمة الآخرين، سواء عبر المساهمة في بناء المدارس والمستشفيات، أو عبر دعم المشاريع الصغيرة للشباب، أو عبر ابتكار وسائل للتنمية المستدامة.
إن التباهي بالثراء ليس مجرد سلوك فردي عابر، بل هو كارثة مجتمعية حقيقية إذا تُرك دون وعي أو ضوابط. فهو يقتل الرضا، ويزرع المقارنات، ويدفع البعض للطرق المظلمة، ويعمّق الفجوة بين أفراد المجتمع. كم سمعنا عن زوجات طلبن الطلاق بسبب عدم الرضا عن حياتها نظرا للمقارنة المستمرة مع من تشاهد في وسائل التواصل. كم من عقوق للوالدين قد انتشر بسبب مطالبات الأبناء من والدهم مستوى حياتي معين لا يستطيع الوصول له. ومن هنا لا بد أن نعود إلى القيم الأصيلة التي تحثنا على شكر النعمة وحفظها واستخدامها فيما ينفع الناس، لا فيما يثير الغيرة والفتنة. فالغنى الحقيقي ليس بما نملك ونُظهر، بل بما نعطي ونشارك ونترك من أثر نافع في الحياة.