عزة النفس عمود من أعمدة مكارم الأخلاق، وبها يرتقي الشخص لحدود الآفاق، وفاقدها كالذي وُضع حول عنقه الأطواق. عزة النفس منقوشة في تعاليم المجتمعات العربية، وبالتحديد المجتمع الذي عاش -وما زال يعيش- في جزيرة العرب. أرض العرب، أو ما يُطلق عليها اسم جزيرة العرب، التي تضم الآن دولاً عدة، هي المصدر الرئيسي لتعاليم عزة النفس في عالمنا.. والأدلة والبرهان على ذلك كثيرة.
لو نظرنا لخريطة الجزيرة العربية لرأينا أن المملكة العربية السعودية تُشكِّل أكثر من ثُلثَي مساحتها؛ لذلك هي جوهر ولب هذا المجتمع؛ وسبب ذلك أنها مهد لرسالةٍ، تعاليمها تحثُّ على عزة النفس، ويعتنقها ويُطبِّقها رُبع سكان الكرة الأرضية.. والبلد الذي لم يسبق أن وَطِئ أرضه أقدام المستعمر؛ وهذا الأمر دليل قاطع على ميزتها.
عزة النفس لم تقتصر على سكان هذه المنطقة من البشر فقط، ولكن حتى الحيوانات التي تنسب لها تحلَّت بهذه الصفة التي لن نجدها في أقرانها من الحيوانات. فعلى سبيل المثال: كان العرب في السابق إذا تكاثرت خيولهم، واختلط عليهم معرفة أصيلها من هجينها، يقومون بربط خيولهم وضربها وتجويعها، ثم بعد ذلك يضعون الطعام أمامها، ويطلقون سراحها. جميع الخيول الهجينة تنطلق بكل سرعتها لأحواض الطعام إلا الخيول العربية؛ تأبى أن تأكل من اليد التي سبق أن ضربتها. وبهذه الطريقة كان العرب يعرفون الخيول العربية. وهذا المثال أحد الأدلة على أن هذه الأرض هي مصدر لتعليم مفهوم عزة النفس.
وهنا سأسرد لكم قصة عجيبة، حدثت لي مع ناقتي من نوع المجاهيم. وهذا النوع من الإبل يُعتبر أحد أنواع الإبل التي يعود أصلها للجزيرة العربية. في يوم من الأيام دخلتُ حظيرة الإبل، ومعي أحد أبناء عمي الصغار. وكانت هذه الناقة دائمًا ما تحب اللعب معي. وأثناء غفلة مني قامت هذه الناقة بدهس هذا الطفل من باب اللعب معه. ولله الحمد نجا هذا الطفل بأعجوبة، ولكنني قررت أن أعاقبها؛ فقمتُ بربط أيديها بالقيد؛ لكي لا تقوم بدهس الصغار مجددًا. أظلم الليل؛ فذهبت للمنزل، وفي الصباح اتصل بي مُربِّي الماشية، وقال لي: الناقة قطعت قيدها، وقطعت الشبك الحديدي، وذهبت، وتركت ابنتها. للأمانة، لم أصدق ما يقوله المُربِّي لي؛ فمن المستحيل أن تترك الناقة حوارها لأي سبب من الأسباب. ذهبتُ لموقع الإبل؛ لأتحقق من الأمر. حينما وصلت وجدت أن ما قيل لي وقع بالفعل؛ فصُعقت؛ والسبب أنني أشاهد ابنتها أمامي وهي غير موجودة بين الإبل. جلستُ فترة أُحدِّث فيها عقلي؛ لكي أستوعب ما حدث ويحدث، فقلت: يجب أن يكون هناك شخص قام بسرقتها. وللأسف، لم أجد حولي أثرًا لسيارة غير سيارتي. وعلاوة على ذلك، وجدت آثار أقدامها متجهة للشرق. لم أجد تفسيرًا لما يحصل. ومن باب طمأنة النفس قلت لمُربِّي المواشي: لا عليك؛ سوف تجوع، وتحن على ابنتها؛ وتعود. وهذا هو الأمر المتوقع عند كل بدوي يعرف الإبل. للأسف، مرَّت الأيام، وهبَّت العواصف الرملية، ولم تعد ناقتي، ولم أستطع أن أجد لها أثرًا لكي أقتفيه.
قمتُ بعد ذلك بعملية بحث، وكنت أبحث بعيدًا؛ لظني وجزمي أنها ذهبت بعيدًا. وبعد أسبوعين من البحث المتواصل اتصل بي أحد أقربائي، وقال لي: ناقتك رأيتها اليوم وسط ذلك العرق. والمقصود بالعرق هنا هو تجمُّع للكثبان الرملية. ذهبتُ أنا وقريبي لذلك العرق فوجدناها، فلم أصدق ما أراه. الناقة كانت تبعد عن الحظيرة نحو ٥ كيلو فقط. وحينما قمت بتتبُّع آثار أقدامها كانت تذهب لمكان الماء (القرو) ليلاً لتشرب، وتعود لتُخفي نفسها وسط الكثبان الرملية. نزلت عليها، وقمت بإعطائها الأكل بيدي، وكأنني بذلك أُقدِّم لها اعتذاري عمَّا قمتُ به لها من حماقة. بعد ذلك قمت بإرجاعها لمكان الحظيرة وكُلِّي يقين أنها لن تتعرف على ابنتها. ولكن المفاجأة أنها قامت بالذهاب لابنتها، والسماح لها بشرب الحليب منها. بعد ذلك جلستُ أراقبها طوال تلك الليلة؛ كي أتأكد أنها لن تغادر مكان الإبل، وبالفعل لم تفارق مكان الإبل حتى نفقت بعد سنوات عدة. وهذه من أعجب القصص التي حدثت لي مع الإبل.
قصة هذه الناقة لن يتعجب منها إلا مَن يعرف طبيعة الإبل. وما حصل فيها عبارة عن دروس عن عزة النفس، علمتني إياها ناقتي. القصة قد تكون غريبة على من يعرف الإبل، ولكنني لم أكن الشخص الوحيد الذي عايش هذه القصة الغريبة؛ فقد عايش معي أحداثها خلال أسبوعَيْ البحث أبي وأعمامي وأبناء أعمامي.
ما تم سرده عبارة عن دلائل وبراهين وتجارب، توضِّح للجميع أن الجزيرة العربية مميزة؛ كون معظم مَن تجذر وتأصل منها من بشر وحيوانات يمتلكون صفة عزة النفس بشكل تلقائي.. فلو قمت بسرد قصص عزة نفس الخيل والإبل والذئاب وغيرها من الكائنات التي تعيش في الجزيرة العربية لما أحصيتها في مقال واحد. هذا من غير قصص الأفراد الذين عاشوا على هذه الأرض العزيزة.
وبوصفي فردًا من أفراد هذا المجتمع العزيز أفتخر بأنني تعلمت من ناقتي بعض دروس عزة النفس.