طق الرقبة والجلطة.. والإرهاب الطبي

تم النشر في

ضجَّت بعض منصات التواصل الاجتماعي بقصة فتاة توفيت بجلطة بعد زيارة لمتخصص في تقويم العمود الفقري "الكايروبراكتك"، قام بعمل ما يسمى عرفًا "طق الرقبة".

وفتحت هذه الرسالة الباب على مصراعيه لنقاشات حول هذه الممارسة من قِبل عدد من المتخصصين في المجال الطبي، فأفتى بعض المعارضين بما لا يحيطوا به علمًا، ونشروا رسائل مربكة ومشوشة للمجتمع!! فكان لزامًا علينا نحن المتخصصين في تعزيز الصحة أن نتحمل مسؤولية توعية المجتمع وفق منهجية علمية التدخُّل لإيضاح الأمر للمجتمع وفق البراهين الصحية والتجارب الدولية.

بداية لا بد أن يعي المعارضون لممارسة الكايروبراكتك (Chiropractic)، أو ما يمكن تسميته "تقويم العمود الفقري"، أنها إحدى ممارسات الطب التكميلي والتكاملي، ومعتمدة في العديد من الدول كالولايات المتحدة وبريطانيا، وبعض دول الاتحاد الأوروبي، عدا الصين والهند وغيرهما.

والمفترض أن يمارَس هذا النوع من الطب وفق أنظمة وضوابط مقننة؛ فلا يُسمح بممارسته إلا بعد الحصول على تعليم وتأهيل كافيَيْن، وترخيص بمزاولة المهنة.

كما أصدرت منظمة الصحة العالمية موجهات حول التدريب والسلامة في الكايروبراكتك، وتدعو إلى تطوير ممارسات الطب الشعبي والتكميلي والتكاملي في الدول وفق أفضل البراهين العلمية.

ووفقًا للتقرير العالمي للطب الشعبي والتكاملي لعام 2019، تشير المنظمة إلى وجود 96 دولة، يتم فيها ممارسة الكايروبراكتك؛ وبالتالي فإن إنكار هذه الممارسة، أو التقليل من شأنها بطريقة غير علمية، يخالف الأدبيات العلمية المتعارف عليها عالميًّا، وينم عن قصور في فَهم ومتابعة مستجدات الطب التكميلي والتكاملي الذي أصبح يأخذ مكانه بطريقة مبنية على البراهين في كثير من الدول المتقدمة طبيًّا.

على سبيل المثال، ووفقًا للمركز الحكومي الوطني للطب التكميلي والتكاملي في الولايات المتحدة (NCCIH)، فإن ممارسة الكايروبراكتك تستوجب حصول الممارس على دكتوراه في ذلك (DC)، مع اجتياز امتحان المجلس الوطني لفاحصي الكايروبراكتك، إضافة إلى الحصول على ترخيص من الولاية التي يعمل بها، كذلك الحصول على ساعات تدريبية بصفة دورية.

ويمارَس هذا التخصص في أعرق المستشفيات والعيادات الأمريكية، كمايو كلينك وكليفلاند كلينك، والخدمات الطبية بجونز هوبكنز.

وربما قد يستغرب بعض المتخصصين في المجال الطبي أن الكايروبراكتك إحدى الممارسات المعتمدة من قِبل المركز الوطني للطب البديل والتكميلي في السعودية، الذي وضع لها أُطرًا وضوابط لممارستها.

وقد تفاعل المركز مع ذلك اللغط تجاه تلك الممارسة؛ وأصدر بيانًا حيالها، كما دعا في بيانه المراجعين لعيادات الكايروبراكتك إلى التحقق من تصنيف الممارس وترخيصه، والمنشأة التي يعمل بها، من قِبل المركز.

وللعلم، تُستخدم هذه الممارسة لعدد من الأغراض الطبية، من أكثرها شيوعًا تخفيف آلام الظهر والرقبة، ومعالجة الصداع، وآلام بعض العضلات والمفاصل، مع تفاوت في قوة الأبحاث والبراهين المتعلقة بذلك.

كما يفترض أن يعمل ممارسو هذه المهنة من خلال فريق طبي، وجنبًا إلى جنب مع أطباء الرعاية الأولية، والمتخصصين في الجراحة والألم، وغيرها من التخصصات.

أما ما يتعلق تحديدًا بحدوث الجلطات نتيجة هذه الممارسة، التي كانت أبرز حجة لرفض هذه الممارسة من قِبل المعارضين، فالإجابة بسيطة ومُيسَّرة: يحدث في "الكايبروبراكتك" ما يحدث في التخصصات الطبية الأخرى من احتمالية حدوث أعراض جانبية ومضاعفات أو أخطاء طبية.

ووفقًا لإدارة الخدمات الصحية الوطنية البريطانية (NHS) فإن الكايروبراكتك ممارسة آمنة بشكل عام عندما يتم إجراؤها بشكل صحيح، ومن قِبل معالِج مدرَّب ومرخَّص، ولكن قد يصاحب ذلك بعض الأعراض الجانبية (كما هو الحال في الممارسات الطبية الأخرى)، مثل الآلام، التي غالبًا ما تكون آثارًا جانبية خفيفة، تختفي في بضعة أيام.

كما أشار المركز الوطني للطب التكميلي والتكاملي الأمريكي (NCCIH) إلى أن لهذه الممارسة أعراضًا جانبية ومضاعفات، ومن ذلك حدوث الجلطات، إلا أنها نادرة الحدوث.

وهنا يأتي دورنا نحن الأطباء والممارسين الصحيين في توعية المراجعين، وإرشادهم بمنهجية متوازنة ناجمة عن اطلاع ومعرفة علمية، لا اجتهادات شخصية واندفاع غير عاطفي غير مسند بالبراهين. فمن حق المراجع الوصول لما أسميه "المعرفة الموثوقة المتكاملة والشاملة" في أموره الصحية حتى يتمكن من اتخاذ القرار على علم وبينة؛ وبالتالي من حقه أن يعلم أن هذه الممارسة معتمدة ومصرح لها في السعودية، وهناك ممارسون وعيادات متخصصة في ذلك، ونُبيِّن له أن لها -كما للممارسات الطبية الأخرى- أعراضًا جانبية ومضاعفات محتملة.

وأُوجِّه رسالة لبعض الأطباء والممارسين الصحيين المأسورين بشكل مفرط بمدرسة "الطب الغربي": هونًا عليكم.. فهو ليس علمًا مطلقًا لا عوج فيه ولا أمتا، وغيره منكر بواح!!.. وبلا شك، تلك المدرسة نجحت نجاحًا ضخمًا ومميزًا، وغير مسبوق في مجالات الطب المتعددة، لكن لا يجب أن يكون ذلك مدعاة لنسف أنواع المدارس الأخرى من الطب، هكذا جزافًا دون برهان، وخصوصًا مع الانفتاح العالمي على مدارس الطب الشعبي والتكميلي.

وأقول لهم: خففوا من هذا التشدد والإرهاب الطبي تجاه بعض ممارسات الطب الشعبي والتكميلي المعتمدة والمصرح بها! اقرؤوا وابحثوا في المستجدات وتجارب الدول، وماذا يقول العلم المبني على البراهين في ذلك، قبل أن تقفوا ما ليس لكم به علم!!

أما المركز الوطني للطب البديل والتكميلي فلديه قصور شديد في توعية المجتمع، وكذلك توعية الممارس الصحي، ويحتاج إلى استراتيجية شاملة ومتكاملة لتوعية كلتا الفئتين تجاه ممارسة الطب البديل والتكميلي في السعودية. هذا فضلاً عن أهمية بناء استراتيجية وطنية للطب التكميلي والتكاملي، وخصوصًا أنه يتضمن فرصًا واعدة، تتوافق مع رؤية 2030، لكنها غير مستثمرة.

▪ وقفة للتأمل:

قاعدة علمية مهمة، لم نتعلمها في مدارس الطب الغربي وأبحاثه، بدأت تظهر في العلوم الحديثة، كعلم "الفيزياء الكمومية"، لكنها قبل ذلك هي قاعدة شرعية، تقول: عدم العلم بالدليل (أي البرهان) ليس علمًا بالعدم، وعدم الوجدان (وجود البرهان) ليس نفيًا للوجود. وكما أن الإثبات يحتاج إلى دليل فكذلك النفي يحتاج إلى دليل.

والحديث ذو شجون في ذلك!!

صحيفة سبق الالكترونية
sabq.org