من الرق إلى الكرامة الإنسانية… رحلة الإنسان نحو نفسه

بمناسبة اليوم العالمي لإلغاء الرق – 2 ديسمبر (الأمم المتحدة)
تم النشر في

لا يزال تاريخ الرق، رغم ثقله، حاضرًا في الوجدان الإنساني. فهو قصة الإنسان مع نفسه، وصراع طويل بين القوة والعدالة، وبين الاستغلال والكرامة. وفي اليوم العالمي لإلغاء الرق، تتجدد الأسئلة حول ما إذا كان العالم قد تجاوز تلك الحقبة فعلًا، أم أن العبودية عادت بوجوه أخرى لا تُرى بالعين المجردة.

1. اليوم العالمي لإلغاء الرق… ولماذا يهمنا؟

اعتمدت الأمم المتحدة الثاني من ديسمبر ليكون يومًا عالميًا لمواجهة جميع أشكال الرق، وتذكير المجتمع الدولي بأن الحرية ليست امتيازًا، بل حقًّا أصيلًا. يأتي هذا اليوم كمحطة لإعادة تقييم السياسات، ومراجعة التقدم المُحرز، وكشف ما تبقى من الانتهاكات التي تختبئ خلف ستار القوانين والمواثيق.

2. الرق: جرح في ضمير الإنسانية

لمحة تاريخية

منذ الحضارات القديمة — في مصر وبلاد الرافدين وروما — عرف الإنسان استعباد أخيه الإنسان. ومع التوسع الأوروبي البحري في القرون 15–19، بلغ الرق ذروته بتحويل البشر إلى “سلع” تباع وتشترى، حيث تم اقتياد أكثر من 12 مليون إفريقي عبر الأطلسي، في واحدة من أفظع الجرائم المنظمة في التاريخ.

ولقد كرمنا بني آدم:

جاء الإسلام في زمن كان استعباد البشر جزءًا من البنية الاقتصادية والاجتماعية للعالم القديم، فبدأ بإحداث ثورة أخلاقية تدريجية تُعلي من قيمة الإنسان وتعيد تعريف العلاقة بين البشر على أساس الكرامة والمساواة.

جعل الإسلام العتق أحد أبواب القربات العظمى، وربط تحرير الرقاب بأكثر من موقف تشريعي وروحي، فجعله كفارة لكثير من الذنوب والأخطاء، مثل القتل الخطأ، والظهار، واليمين؛ في إشارة واضحة إلى أن تحرير الإنسان ليس خيارًا ثانويًا، بل طريقًا لتطهير النفس وتهذيب السلوك. كما شجّع النبي ﷺ على عتق الرقاب، وامتدح من يُنفق ماله في تحرير إنسان، وجعل ذلك من أعظم أبواب البر.

وعلى المستوى العملي، نقل الإسلام الرقيق من مجرد “ممتلكات” إلى أفراد لهم حقوق ثابتة؛ فألزم بحسن معاملتهم، وإطعامهم مما يُطعم المالك نفسه، وكسوتهم مما يلبس، ومنحهم الحق في طلب العتق عبر “المكاتبة”، وهي اتفاق يُمكّن العبد من شراء حريته بكرامة واستقلال.

وبهذا النهج، وضع الإسلام أول آليات اجتماعية وتشريعية منظمة تؤدي إلى تقليص الرق وإنهائه في مجتمعٍ كان يعيش عليه، مبينًا أن الحرية ليست منحة تُعطى، بل حق أصيل يستعيده الإنسان.

3. التحرر: صراع طويل نحو الاعتراف بالكرامة

شهدت القرون الثلاثة الأخيرة سلسلة من الحركات الكبرى التي واجهت الرق بكل أشكاله.

فقد نجح العبيد في ثورة هاييتي عام 1804 في تأسيس أول دولة تحكم نفسها بعد التحرر. وفي الولايات المتحدة، قادت حرب أهلية دامية إلى إعلان أبراهام لنكولن إلغاء العبودية رسميًا.

السعودية والملك فيصل… قرار غيّر مسار التاريخ

في العالم العربي، قدّمت المملكة العربية السعودية قرارًا مفصليًا حين أعلن الملك فيصل بن عبدالعزيز عام 1962 إلغاء الرق نهائيًا.

تحكي المصادر أن الدولة قامت وقتها بتحديد مهلة رسمية لتقديم الطلبات حتى 14 صفر 1383هـ (7 يوليو 1963)، وتشكيل لجان حكومية في مختلف مناطق المملكة لضبط البيانات ومراجعة المستندات. وفي نهاية المهلة، بلغ عدد من قُدمت طلبات تعويض بشأنهم 1,682 شخصًا، بينما اعتُبر جميع من لم تُقدّم بشأنهم طلبات معتوقين بالكامل وفق القانون.

كان القرار خطوة جريئة أعادت تنظيم المجتمع على أساس المساواة، ورسّخت مكانة المملكة في مسار الإصلاح الإنساني على المستوى العالمي.

الأمم المتحدة والمواثيق الدولية

ومع صعود المنظومة الحقوقية الدولية، تبنت الأمم المتحدة عشرات الاتفاقيات التي جرّمت الرق والعمل القسري والاتجار بالبشر، لتصبح حماية الإنسان مسؤولية دولية مشتركة.

4. الرق الحديث: عبودية بأقنعة جديدة

ورغم انتهاء الرق التقليدي، تكشف التقارير الدولية عن استمرار ممارسات خطيرة تتخفّى في صور جديدة، من بينها:

- العمل القسري في المصانع والمزارع

- الاتجار بالبشر لأغراض الاستغلال الجنسي

- تزويج القاصرات

- تجنيد الأطفال في النزاعات

تشير تقارير الأمم المتحدة لعام 2024 إلى وجود 50 مليون إنسان يعيشون تحت شكل من أشكال العبودية الحديثة. وتلعب التكنولوجيا دورًا مزدوجًا؛ فهي تكشف الانتهاكات وتفضحها، لكنها في الوقت نفسه تُسهِل الشبكات غير القانونية العابرة للحدود.

5. الكرامة الإنسانية… جوهر الوجود البشري

الكرامة هي أساس البناء الاجتماعي، وهي القيمة التي لا يمكن لأي نظام عادل أن يتجاوزها.

من منظور فلسفي وأخلاقي، لا يمكن فصل الحرية عن العدالة، ولا العدالة عن المساواة.

وحتى تتجذر هذه القيم، يجب على المجتمعات تعزيز الوعي، وتمكين الفئات الهشة، ومواجهة كل أشكال التمييز والاستغلال.

خاتمة… وأسئلة مفتوحة

انتهت أسواق النخاسة، واختفى صوت القيود الحديدية… لكن هل انتهى الرق حقًا؟

هل نجح العالم في حماية الإنسان من العبودية الحديثة؟

وماذا يبقى علينا أن نفعل كي لا يبقى أحد في هذا العالم مقيدًا — ولو بغير سلاسل؟

صحيفة سبق الالكترونية
sabq.org