لماذا نعيد التجربة نفسها ونصل للنتيجة ذاتها؟
أحياناً يعيش الإنسان وكأن حياته تدور في حلقة مغلقة. أخطاء تعود بملامح جديدة، ووجوه تختلف لتقود إلى النتيجة نفسها، حتى يبدو وكأن القدر يعيد نسخ المشهد ذاته. يلوم الحظ مرة، ويتهم الصدفة مرة أخرى، ثم يستسلم لفكرة أن الأمر مكتوب عليه. لكن في داخله يدرك أن الحقيقة أعمق من ذلك، وأن ما يحدث ليس قدرًا خالصاً بقدر ما هو صدى لشيء لم يلتئم بعد.
وما لم يلتئم الداخل، يعود ليفرض نفسه في كل تجربة جديدة. فالجروح القديمة لا تبقى ساكنة كما نظن، بل تتحرك في الحاضر بخطوات خفية. من تعرّض للخيانة قد يدخل علاقة جديدة وهو مثقل بالشكوك، فيتصرف بدفاعية تُنشئ المسافة، فيجد نفسه أمام النتيجة ذاتها. كأن الماضي يمد خيوطه في صمت ليشكّل ملامح الحاضر. ومن الجرح إلى الطفولة يمتد الأثر، فالطفل الذي كبر وسط نقد أو إهمال قد يبحث في الكِبر عن التجربة ذاتها من دون وعي. ينجذب لما يعرفه، حتى إن كان مؤلماً، لأن المألوف يمنحه شعوراً زائفاً بالأمان، ولو على حساب راحته الحقيقية.
وما يجعل الأمر أشد ثِقلاً أن الخوف من العزلة يضاعف أثر الجروح والطفولة. كثيرون يختارون البقاء في صداقات سامة أو علاقات مرهقة بدل مواجهة الفراغ الداخلي. وهكذا يكتمل النسق: جرح لم يلتئم، وطفولة تفرض أثرها، وخوف من عزلة ثقيلة، كلها تسحب الإنسان إلى المسار ذاته. وعلم النفس بدوره لم يغفل هذه الظاهرة؛ فهي تُعرف في التحليل النفسي بمصطلح إعادة التمثيل (Repetition Compulsion)، أي ميل الإنسان إلى تكرار التجربة المؤلمة من دون وعي، وكأنه يحاول إصلاح الماضي أو السيطرة عليه، لكنه يجد نفسه أمام النتيجة ذاتها. وحتى علم الأعصاب يفسر الأمر بطريقته، إذ يُظهر أن الدماغ يفضل العودة إلى المسارات العصبية المألوفة، مهما كانت مرهقة، لأن إعادة استخدامها أقل تكلفة من تكوين مسارات جديدة. وهذا يوضح لماذا يكون تغيير السلوك صعباً في البداية، لكنه يظل ممكناً متى ما وُجد الوعي واتُّخذ القرار.
ومع ذلك، فإن كسر الحلقة لا يعني أن الحياة ستغدو مثالية فجأة، بل أن الإنسان يبدأ بمواجهة ذاته بصدق. وحين يتساءل: لماذا أكرر الاختيارات ذاتها؟ يكون قد خطا أول خطوة في الاتجاه الصحيح. فمجرد الوعي بالسبب يفتح الباب أمام التغيير، ويعيد ترتيب العلاقة بينه وبين نفسه أولاً، ثم مع الآخرين. عندها تتحول العلاقات إلى مساحة أكثر صحة، وتصبح القرارات أقرب لما يستحق فعلاً، لا لما اعتاده أو خاف فقدانه. ومن هنا تبدأ الخطوات الصغيرة التي تقود إلى تحوّل حقيقي.
والتغيير يشبه بناء عضلة جديدة؛ يحتاج إلى تدريب وصبر. خطوة صغيرة قد تفتح نافذة، ونافذة تقود إلى باب، والباب قد يغيّر مسار حياة كاملة. ومن يمنح نفسه فرصة بداية جديدة سيدرك أن العزلة ليست عدواً، بل مساحة للنمو، وأن الماضي مهما كان ثقيلاً لا يملك أن يقرر المستقبل.
وحين يجرؤ الإنسان على كسر الدائرة، يكتشف أن ما كان يظنه قدراً لم يكن إلا طريقًاً مألوفًا اختاره مراراً من دون وعي. هناك دائماً أبواب أخرى تنتظر من يفتحها، والحياة، في اتساعها وتجددها، أجمل بكثير مما تخيل وهو يدور في الحلقة نفسها.