حلم المصنع الرقمي، خطوة نحو السيادة التقنية ..

تم النشر في

لماذا لا نملك حتى اليوم تطبيقًا سعوديًا يُستخدم على نطاق واسع داخل وخارج المملكة العربية السعودية، ويُنافس تطبيقات كبرى، كتلك التي تُقدمها شركات مثل (Google) و (Microsoft)؟

ماذا لو توقفت خدمات هذه الشركات فجأة، لأي سبب كان؟ هل نملك بدائل محلية حقيقية وفعالة؟

على سبيل المثال: خرائط (Google) وتطبيقات التواصل مثل (WhatsApp) والبريد الإلكتروني من (Google) و (Microsoft)، جميعها أصبحت من الأدوات الأساسية في حياتنا اليومية، ومع ذلك لا نملك بديلاً وطنيًا يُعتمد عليه بشكل كبير في حال تعطلت هذه الخدمات.

لم يكن هذا التساؤل وليد لحظة، بل هو هاجس حقيقي تشكّل مع تسارع خطوات التحول الرقمي في المملكة ضمن رؤية السعودية 2030، التي شملَت كافة مناحي الحياة، و رسّخت التقنية كعنصر جوهري في تحسين جودة الخدمات ورفع كفاءة الأداء.

ويبرز هذا التّحوُل من خلال نماذج رائدة في القطاعات الحكومية، مثل منصة "اعتماد" التابعة لوزارة المالية والمركز الوطني لنظم الموارد الحكومية، التي تُعد مثالًا متقدمًا لتّحوُل رقمي مؤسسي ناجح، وخصوصاً في مجال التعاملات المالية والمشتريات الحكومية.

كما لا يمكن إغفال نماذج أخرى متميزة، مثل "أبشر" لخدمات وزارة الداخلية، و"ناجز" التابع لوزارة العدل، إلى جانب تطبيقات جديدة وواعدة مثل "هدهد" و"بلدي+" الذي يُقدم خدمات خرائط رقمية متقدمة.

هذه التجارب وغيرها، تُؤكد المكانة التقنية التي وصلت إليها المملكة، والتي جعلتهَا من بين أفضل دول العالم في توظيف التقنية لخدمة الإنسان.

لم يكن الحراك الوطني مقتصرًا على تطوير البرمجيات والتطبيقات، بل امتد ليشمل صناعة العتاد التقني (Hardware) بشراكات استراتيجية دولية، يتجلى ذلك في تأسيس شركة "آلات" التابعة لصندوق الاستثمارات العامة، برئاسة سمو ولي العهد، والتي بدأت بالشراكة مع شركة (Lenovo) لتوطين صناعة الأجهزة داخل المملكة.

كما أطلقت شركة الفنار شراكة مماثلة مع HPE (Hewlett Packard Enterprise) أثمرت عن إنتاج فعلي للأجهزة والحواسيب في المملكة، مما يعزز من قدرة السعودية على بناء قاعدة صناعية تقنية متكاملة.

وفي مجال الحوسبة السحابية، اتجهت كبرى الشركات العالمية مثل (Google) و(Microsoft) و (Amazon Web Services) إلى افتتاح مراكز بيانات داخل المملكة، أو الإعلان عن خطط لافتتاحها قريبًا، في مؤشر واضح على جاذبية السوق السعودية، وتّحوُلها إلى مركز رقمي إقليمي مُتفرد.

أما في استشراف المستقبل، فقد جاء تأسيس شركة "هيوماين" للذكاء الاصطناعي، برئاسة سمو ولي العهد، كعلامة فارقة تؤكد التزام المملكة بقيادة المشهد التقني العالمي.

إن امتلاك التقنية لا يكتمل إلا بامتلاك جميع طبقاتها: من الشبكات والبنية التحتية، مرورًا بأنظمة التشغيل، ووصولًا إلى العتاد والتطبيقات، وبينما نرى تقدمًا ملحوظًا في أغلب هذه المسارات، إلا أن مجال صناعة التطبيقات الوطنية لا يزال بحاجة إلى مضاعفة الجهود، ليواكب هذا الزخم ويُسهم في تحقيق الاكتفاء والسيادة الرقمية.

التّحوُل الرقمي .. أم النضج التقني؟

تجربة إطلاق (ChatGPT) كانت لحظة مفصلية كشفت جاهزية القطاعات التقنية عالميًا، وفي حين كانت شركات مثل (Google) تُطلق حُلُول ذّكاء اصطناعي مُتقدمة خلال أشهر، كانت العديد من الجهات حول العالم، بما فيها منطقتنا، تُركز على تأمين الأساسيات مثل العتاد التقني (GPU) والنماذج اللّغوية.

لكن النموذج الصيني يُثبت أن الرّهان على التقنية الوطنية ليس حُلمًا بعيدًا ،(WeChat) الذي يخدم أكثر من مليار مُستخدم، وخرائط (Baidu)، ونموذج الذّكاء الاصطناعي (DeepSeek)، جميعها أمثلة على نتائج استثمار طويل المدى في بيئة ناضجة تُنتج لا تستهلك.

هذه النماذج لا تُقارن بالضرورة لخصوصية السّياقات، لكنها تُؤكد أن الرؤية، والاستثمار، وبناء الكفاءات قادرة على إحداث نقلات نوعيّة، وأن امتلاك التقنية يعني امتلاك القرار، خُصوصًا في عالم أصبح فيه التطبيق هو أداة التأثير الأولى في الأزمات والمنافسة.

رأينا في كثير من الاضطرابات الإقليمية والدولية في السنوات الأخيرة، وكيف كان أثر التطبيقات والأنظمة والمعلومات بشكل حاسم ومؤثر جدًا في حجم الانتصار أو الهزيمة.

من لا شيء .. وصلنا إلى إنجاز حقيقي.

عندما بدأت رحلة التّحوُل الرقمي لمنصة "اعتماد" في عام 2017م، لم يكن هُناك ما يُذكر فضلًا عن أن يكون ناضجاً ومتميزاً، لكننا في المنظومة المالية اعتدنا على ثقافة التحسين والتطوير المستمر، وبإمكاننا اليوم أن نقول إننا وصلنا إلى مستوى يتفوُّق على كثير من شركات التقنية المحلية، من حيث: الإجراءات التقنية، وأدوات التطوير، والأتمتة في كافة الأعمال، بالإضافة إلى بناء معمل لتجربة المستخدم يُعد من الأوائل على مستوى المنطقة، والوُصول إلى درجة استخدام التّوائم الرقمية (Digital Twins) في جميع مراحل تطوير التطبيقات داخل المركز الوطني لنظم الموارد الحكومية، وهو أمر نادر جدًا.

وعندما أعُود بالذاكرة لأقارن وضعنا في 2017م، بما نحن عليه الآن، أشعر بدهشة و ذُهول حول القفزات الكبيرة التي تحققت ولله الحمد، لكن حين أُقارن ما وصلنا إليه بما هُو موجود عالميًا، وخُصوصا مع شركات وادي السيليكُون ومثيلاتها في دُول أخرى مثل الصين وغيرها، أزدادُ قناعة بأن الطريق لا يزال طويلاً، ولا بُد أن نُضاعف الجُهد إذا أردنا أن نصل إلى مرحلة نبني فيها تطبيقات وطنية تحقق لنا الاكتفاء والسيادة التقنية.

مبادرة المصنع الرقمي

من هُنا وُلِدت فكرة المصنع الرقمي داخل المركز الوطني لنظم الموارد الحكومية، هدفنا أن نكُون نموذجًا رائدًا إقليميًا وعالميًا في تطوير البرمجيات والتطبيقات، حيث تبنّى المركز أحدث النماذج والأدوات التقنية، وأُنشئ معامل بحثٍ وتطويرٍ وابتكارٍ داخليًّ، إلى جانب استخدام أدوات الذكاء الاصطناعي بشكل مُخصص “On-Prem” داخل الأنظمة، وليس من خلال مُزود خارجي؛ لتشمل دورة حياة التطوير، بدءً من التحليل وصولاً إلى الاختبار وانتهاءً بتجربة المُستخدم، أصبحت جميعها تُدار من خلال أدوات ذكية وبيئات آمنة، وبمعايير عالية المستوى مع تبني أفضل الممارسات البرمجية العالمية مثل (DevOps) و (MicroServices) وغير ذلك من مفاهيم ومُمارسات معرُوفةٍ في مجال صناعة التطبيقات.

ماذا بعد؟

مع وُجُود مُستهدفٍ طمُوح يتمثّل في تأهيل 100 ألف مُبرمج سعودي بُحُلول عام 2030، تقُوده جهات حكومية مثل الاتحاد السعودي للأمن السيبراني والبرمجة والدرونز، من المهم الإشارة إلى أهمية هذا الهدف والجهود الكبيرة التي يبذلها الاتحاد وعدد من الجهات التقنية الأخرى في حراكٍ كبيرٍ وغير مسبُوق، والتي انعكست في المخرجات التقنية المميزة، وتلك الجُهود ساهمت في تطوير القدرات، ودعم الابتكار، وتعزيز استدامة هذا المجال الحيويّ، فالبرمجة ستصبح قريبًا جُزءًا من كل شيء حولنا، كما أن الذكاء الاصطناعي وفقًا لأحد مُهندسي وادي السّيليكون، سيكُون أخطر من الأسلحة النووية!.

علينا أن نتعامل مع هذه الثورة الرقمية بجدية

فمنصة رقمية بدون هندسة .. كمبنى عشوائي بلا مخطط!

التّحوُل الرقمي ليس كافياً بدون نُضج تقني، والتّميز في استخدام التقنية لا يعني بالضّرورة التّميز في صناعتها، والحاجة كبيرة لرفع معايير صناعة التطبيقات في السعودية من خلال تدريب وتأهيل الكوادر الوطنية بمستوى ومعايير عالمية، إضافة إلى صناعة بيئة ومناخ مُناسب للمبرمجين ومهندسي التقنية (مثل مدينة المبرمجين في الهند ووادي السّيليكون في أمريكا)، ومن ثم صناعة نماذج لتطبيقات تكتسح محليًا (بشكل اختياري)، ثم تتوسع خارج المملكة وتثبت نفسها في دُول أُخرى.

المصنع الرقمي هو خطوة نحو بناء مستقبل تقني مُستقل في مجال التطبيقات، فهل سنظل من مستخدمي التقنية، أم سنصبح من صُنّاعها؟

صحيفة سبق الالكترونية
sabq.org