حين يكون الصمت فضيلة..!

"إذا كان الكلام من فضة فإن السكوت من ذهب".. حكمة نكررها كثيرًا، وتتردد على ألسنتنا دون أن نتبيَّن المعاني التي تكمن وراءها، ومتى تكون حقيقة، لكن من الواضح أن قلة من الناس تمارس هذا الرأي عن قناعة؛ فالكثيرون يعتقدون أن كثرة الحديث مفتاح الظهور، وطريقة التعبير عن النفس، بغض النظر عن محتواه أو وجاهته.

بين الموقفَين تقع منطقة وسطى، لا يستطيع الوصول إليها سوى مَن يمتلك القدرة على تقييم المواقف؛ فالصمت ليس عنوانًا للضعف أو غياب الحجة؛ فهو فضيلة في كثير من الأوقات، ولاسيما إذا لم يكن هناك ما يستحق أن نقوله، أو كان الحديث مع من لا يعرف آدابه.

الكثيرون ممن حولنا يصبح حديثهم، وخصوصًا في حالات الاختلاف في وجهات النظر، مجرد "تلوث سمعي"؛ إذ لا يتوقفون عن إطلاق الاتهامات يمنة ويسرة، وعندها يكون الصمت منجاة وسلامة، ويضفي على صاحبه هيبة ووقارًا، ويمنح صاحبه الفرصة لتطوير حسه الإبداعي، وإنعاش ذاكرته، وتطوير نفسه، وإعادة تقييم مواقفه، ولاسيما في هذا العصر الذي ابتُلينا فيه بصخب الحياة المعاصرة، وضجيج المدن، وإدمان الهواتف الذكية والأجهزة الحديثة؛ وهو ما حرمنا من الحصول على لحظات هدوء وصمت، نجدد فيها نشاطنا، ونستعيد صحتنا النفسية والجسدية.

كذلك، فإن الصخب والضجيج يرتبط في كثير من الأحوال بالغضب والانفعال، ومن ذلك قوله تعالى {وَلَمَّا سَكَتَ عَن مُّوسَى الْغَضَبُ أَخَذَ الْأَلْوَاحَ}، فعندما غضب عليه السلام على قومه لعبادتهم العجل ثار وصاح عليهم، وعندما هدأ ولاذ بالصمت اهتدى إلى الصواب، وقام بما يجب عليه فعله.

ولا تقتصر مزايا الصمت على الجانب النفسي فقط، بل إن له فوائد صحية كثيرة؛ فقد أثبتت بعض الدراسات العلمية أن عدم الخوض في أي أحاديث لمدة ساعتين على الأقل يوميًّا يساعد في نمو خلايا جديدة في الدماغ، خاصة الخلايا ذات الصلة بالتعلُّم والذاكرة، وأن الضوضاء تزيد مستويات التوتر؛ لأنها تتسبب في انخفاض معدل تدفق الدم إلى الدماغ.

ومن الضرورة إيضاح أن الصمت لا يعني بالضرورة عدم الفعل أو السلبية؛ فهو قد يكون أحيانًا أكثر قدرة في التعبير وإيضاح المواقف؛ فهناك أوقات يصبح فيها الصمت أكثر الطرق الممكنة للتواصل، وأكثر فاعلية من الكلمات؛ فرُبَّ نظرة ذات مغزى تكفي أن نشعر بعدها بتأنيب الضمير بأكثر مما يفعله اللوم والتوبيخ.

وفي المقابل، فإن الاختيار الصائب والدقيق للحالة التي يفضل فيها الركون إلى الصمت، وتلك التي يجب عليه فيها الحديث، هو الذي يحدد حكمة الإنسان واتزانه.. فمع كل مزايا الصمت إلا أن هناك مواقف من الأفضل فيها أن يميل الإنسان إلى البوح للآخرين بمشاعره، أو استشارتهم، مثل أوقات الأزمات النفسية، وعندما تثور الآلام داخل النفس؛ فعندها لا بد أن نعبِّر عما نعانيه، ونشكو آلامنا لمن يتفهمنا.. ففي الحديث راحة في مثل هذه الحالات.

كذلك، فإن الصمت بين الأزواج، وما نشاهده في كثير من البيوت من خواء عاطفي، وانعدام للحوارات الهادفة بين أفراد الأسرة الواحدة، سبب رئيسي في النفور، وضياع المودة، وموت الحب؛ لذلك فإن الحديث الهادئ الهادف يجدد المياه الراكدة، ويضفي على المنازل أجواء من الحيوية.

وكما قال بعض الحكماء، فإن الحماقة أن يظل الإنسان صامتًا حينما يُطلب منه الحديث، أو يتحدث حينما يتوجب عليه الصمت.. فالتمييز بين الحالتين هو الذي يحدد مدى نضج الإنسان، وقدرته على التحكم في نفسه، وفي علاقاته مع الآخرين.

ولا أجد ما أختم به أبلغ من مقولة ويليام شكسبير المشهورة: "هناك كلام لا يقول شيئًا، وهناك صمت يقول كل شيء".

Related Stories

No stories found.
صحيفة سبق الالكترونية
sabq.org