انسحاب الولايات المتحدة من منظمة الصحة العالمية ضربة موجعة

تم النشر في

أصدر الرئيس الأمريكي دونالد ترامب أمرًا تنفيذيًّا بانسحاب الولايات المتحدة من منظمة الصحة العالمية؛ وهو ما أثار الكثير من الجدل بين المختصين حول تداعيات ومخاطر ذلك على الصحة عالميًّا، وعلى الولايات المتحدة، وخصوصًا أن المنظمة هي الجهة المعنية بتعزيز الصحة العامة عالميًّا، ولها دور محوري في مواجهة التحديات الصحية حول العالم، بدءًا من الأوبئة، مرورًا بالأمراض المزمنة.

بدايةً، دعونا نتعرف على أسباب هذا الانسحاب على لسان ترامب ذاته؛ إذ اتهم المنظمة بأنها "خدعتهم"، وأساءت استجابتها لجائحة كوفيد 19 وغيرها من الأزمات الصحية الدولية.

علمًا بأنه أصدر قرارًا مشابهًا في ولايته الأولى، لكنه لم يدم طويلاً، وتم إلغاؤه بعد تولي الرئيس السابق بايدن الرئاسة.

ووفقًا للأمر التنفيذي، يأتي الانسحاب نتيجة عجز المنظمة عن إثبات استقلاليتها عن التأثير السياسي غير الملائم من قِبل الدول الأعضاء، عوضًا عن التذرع بأن الولايات المتحدة تدفع مبالغ ضخمة أكثر مما تدفعه الصين بكثافة سكانها.

ويجدر بالذكر أنه سيتم تفعيل ذلك الانسحاب في غضون 12 شهرًا.

أما بالنسبة لتداعيات ذلك على المنظمة، وعلى الوضع الصحي عالميًّا، فأؤمن بأنها ضربة موجعة للمنظمة، وعلينا ألا نقلل من شأن هذا الانسحاب لأكبر داعم مالي وعلمي وتقني لها.

وستتأثر المنظمة ماليًّا بلا شك، وخصوصًا إذا علمنا أن الولايات المتحدة هي أكبر داعم مالي لها بمعدل يقارب 18% من إجمالي تمويلها؛ إذ ساهمت بمبلغ 1.28 مليار دولار خلال عامَي 2022-2023. وقد يؤدي ذلك لإجراء تعديلات هيكلية في المنظمة، تعطل عمل بعض المبادرات الصحية عالميًّا.

وهنا أستحضرُ بشكل دقيق ما عبَّرت عنه المفوضية الأوروبية من مخاوف حيال ذلك الانسحاب محذرة من أنه قد يقوض الاستجابة للأوبئة مستقبلاً.

كما ستعاني المنظمة تداعيات غير مالية، تشمل خسارة مئات العلماء والخبراء الأمريكيين في مجالات الصحة العامة والوبائيات وغيرها من التخصصات الطبية، عوضًا عن الدعم التقني واللوجستي.

وبدون عضوية الولايات المتحدة ستفقد المنظمة علاقتها الوثيقة بالعديد من المراكز البحثية والعلمية الأمريكية، ويأتي في مقدمتها مراكز التحكم بالأمراض والوقاية الأمريكية (CDC)، التي تعد أحد أهم مراكز الصحة العامة الرائدة في العالم.

كما يشمل هذا الانسحاب الأمريكي إنهاء المفاوضات بشأن اتفاقية الجائحة (Pandemic Agreement) لدى المنظمة، وهي اتفاقية بالغة الأهمية للدول الأعضاء؛ كونها تعالج نقاط الضعف في القدرات، ونقص التعاون الدولي الذي حدث أثناء الاستجابة العالمية لكوفيد 19، إضافة إلى وقف المفاوضات بشأن التعديلات على اللوائح الصحية الدولية (IHR).

وغني عن القول أن تلك التداعيات ستتجاوز حدود منظمة الصحة العالمية، ومن المحتمل أن تؤثر على الوضع الصحي العالمي بطرق مباشرة أو غير مباشرة؛ فمن المحتمل أن تضعف مكافحة الأمراض ومواجهة التهديدات الصحية الجديدة والناشئة أو السارية عالميًّا، وكذلك مكافحة الأمراض المزمنة، وستكون الدول النامية هي الأكثر تضررًا من ذلك.

وقد يقوض هذا القرار ثقة المجتمعات في المنظمة.

وقد أصدرت المنظمة بيانًا، تأمل فيه أن تعيد الولايات المتحدة النظر في ذلك الانسحاب؛ للحفاظ على الشراكة بينهما، وصون صحة ملايين البشر ورفاهيتهم في العالم.

أما التداعيات على الولايات المتحدة فمن المؤكد أنها تستطيع أن تفعل الكثير بمفردها، لكنها على الأرجح ستصطدم بالعديد من التحديات والعوائق للحفاظ على أمنها الصحي.

فعلى سبيل المثال: منع أي جائحة أو وباء لدى البلدان يحتاج إلى تعاون دولي وثيق؛ وبالتالي هذا الانسحاب قد يضعف قدرتها على مكافحة الأمراض المعدية، ويعيق الوصول إلى المراكز المتخصصة والبيانات والمعلومات الصحية والتقنية لدى المنظمة حول الوضع الصحي والوبائي عالميًّا، والمستجدات حول ذلك.

كما أن هذا الانسحاب سيُخفِّض من دعم مبادرات المنظمة في البلدان ذات الدخل المنخفض والمتوسط للاستجابة للأمراض المعدية، والتعامل مع الأوبئة المستجدة والتفشي فيها، أو الكوارث البيئية؛ وهذا بدوره قد يؤدي لتوسيع دائرة التفشي وتهديد الأمن الصحي لدول أخرى، بما في ذلك الولايات المتحدة.

وكما يقول بعض الخبراء، فإن دعم الولايات المتحدة للمنظمة هو استثمار في الأمن الصحي الأمريكي ذاته.

وفي البُعد السياسي أعتقد أن الولايات المتحدة لن تفرط في عضوية منظمة الصحة العالمية، وتعلم يقينًا أن الانسحاب ليس من صالحها، وكما أن له مخاطر محتملة على أمنها الصحي فله أيضًا مخاطر على البعد السياسي؛ فهو قطعًا يؤدي لتراجع دورها وخدمة مصالحها في الشأن الصحي الدولي، كمؤثر رئيسي في سياسات الصحة الدولية، كما يُضعف من تأثيرها على طاولة حوكمة المنظمة وتمرير أجندتها الخاصة كما يقول بعض الخبراء، بل يتيح المجال لدول أخرى لتولي دور أكبر في المنظمة مثل الصين، وهو ما لا يريده الرئيس ترامب.

وفي يقيني أن الرئيس ترامب يعلم مخاطر وحساسية هذا الانسحاب، وكل ما في الأمر أنه ورقة ضغط قاسية على المنظمة للانصياع لمطالبه، وإعطاء مجال أكبر لتغلغل المصالح السياسية الأمريكية في المنظمة.

على أية حال، فإن انضمام الولايات المتحدة لمنظمة الصحة العالمية عام 1948م كان بموجب قانون صادر من الكونجرس؛ وبالتالي فالانسحاب يحتاج إلى قرار منه وليس من الرئيس الأمريكي، وفق ما يشير له بعض خبراء القانون في الولايات المتحدة؛ وبالتالي فقد يواجه ترامب دعاوى قضائية تجاه ذلك.

وبالرغم من إيماني العميق بدور منظمة الصحة العالمية في حماية الصحة عالميًّا إلا أنه يجب علينا النظر إلى الأمور بمنظور متوازن وعقلاني. وكما تشير قاعدة "لا إفراط ولا تفريط"، علينا أن نعترف بأن المنظمات الدولية تعمل في بيئات عمل بالغة التعقيد، قد تواجه خلالها ضغوطًا سياسية واقتصادية ظاهرة وباطنة من قِبل العديد من الدول واستخباراتها، وخصوصًا العظمى منها؛ ما قد يؤثر على صناعة القرار داخلها!! وهو ما يستدعي العمل على تحسين استقلالية وحوكمة وشفافية تلك المنظمات.

ولعل تعامل بعض المنظمات الدولية حيال حرب غزة، والفشل المهني والأخلاقي في معالجة الوضع الكارثي فيها، وازدواجية المعايير والكيل بمكيالين مقارنة بما يحدث في الحرب في أوكرانيا، يعطي مثالاً حيًّا ناصعًا لأحد جوانب تلك الضغوط على المنظمات الدولية.

صحيفة سبق الالكترونية
sabq.org